Home » » قراءة فى مجموعة " فراشات تغازل قوس قزح" القصصية لمحمود الديداموني بقلم: د.عبدالرحيم الكردي

قراءة فى مجموعة " فراشات تغازل قوس قزح" القصصية لمحمود الديداموني بقلم: د.عبدالرحيم الكردي

رئيس التحرير : Unknown on الأحد، 12 مايو 2013 | 8:12 ص


المجموعة القصصية " فراشات تغازل قوس قزح " لمحمودالديداموني ، نكاد نسمع همس الموسيقا الحالمة التي تغازل بها الفراشات قوس قزح في عنوان المجموعة وهى تقدم لوحة فنية للريف المصري وتضم هذه المجموعة ثلاثين قصة ، قسمها الديداموني قسمين ، الأول لم يذكر له اسماً وأدرج فيه عشرين قصة ، والثاني سماه " قصص قصيرة جداً" وأورد فيه عشر قصص ، وهذا يدل على أنه يعتمد الشكل الفني أساساً للقسمة وليس المضمون كما كانالحال في مجموعة أحمد عبده السابقة " حالة حرب" ،بالإضافة إلى أنالعنوان الذي اختاره الديداموني للمجموعة يعتمد على الخيال والإيقاع الشعري الهادئ، كما تتميز قصصه بشكل عام بالرقة والشاعرية الهامسة بل بالرومانسية الحالمة،ويظهر ذلك في عناوين القصص مثل :" قوس قزح" " فراشات" "سارة" "تماثيل من دفتر الذكرى" " سلمى" ، وهذا هو الوجهالآخر للريف المصري ، الوجه الرومانسي الشاعري الساحر الجميل وهذا أيضا يجعلها أوغل في القصة القصيرة الفنية، لأن أسلوبها كما عرف لدى أربابها المبدعين قريب من الشعر .

لذلك فإنني عندما قرأت هذه المجموعة تذكرت على الفور ماكتبه حازم القرطاجني عن الفارق بين صياغة المعاني البرهانية والخطابية والمعانيالشعرية ، إذ شبه حازم المعاني المصوغة في قالب برهاني أو خطابي بالماء الموجود فيإناء من الفخار ، يستدل على وجوده أو عدم وجوده بالقرائن ،الموضوعية أو المتحيزةأو المغلوطة ، كأن يقال إننا نرى رشح الماء على جدار الإناء أو إننا نرى الإناءمنكفئاً ، أما المعاني الشعرية فيشبهها بالماء الذي ننظر إليه بأعيننا في قارورةمن البللور، ويرى أن المعاني الشعرية في جوهرها تختلف عن المعاني البرهانيةوالمعاني الخطابية إذ إن المعاني الأولى تجريدية ذهنية أما الثانية فمحسوسة تخييلية ،والتعبير بالمحسوسات يشحذالنص بالمشاعر، في ضوء هذا التفريق نستطيعالقول : إن المعاني في مجموعة " فراشاتتغازل قوس قزح" ذات مسحة شعرية وأسلوبها يميل إلى الشعر ، لكن هذه الملامح الشعرية في المعانيوالسلوب ملفوفة في إطار البناء السردي ،وهذه سمة من سمات الأدب المعاصر ، أقصد تداخل الأنواع ، فالقصيدة المعاصرة استعانتبالسرد والسرد المعاصر استعان بالشعر حتى بدت القصيدة كأنها قصة ، وبدت القصةكأنها قصيدة ، لكن أحيانا تدخل العناصر الشعرية في جوف القصة أو تدخل العناصر القصصية في القصيدةدون أن يمتزج أحدهما بالأخر امتزاجا كاملاً ، بل يظل كل منهما محتفظاً بسماتهالأولى التي يمكن تبين ملامحها ، وأحيانا أخرى تمتزج عناصر الشعر بعناصر السرد ،بلبعناصر الصور المتحركة امتزاجا كاملآ يشبه امتزاج الألوان بعضها مع البعض الآخر،وتحولها إلى لون جديد ، كما هو الشأن في مجموعة "فراشات تغازل قوس قزح" التي نحن بصدد الحديث عنها ، فنحن نجد مثلاً أن الكاتب يستخدم الفعلالسردي المعتاد ، أي الفعل الذي يتخذ صيغةالماضي غير الدال على الزمان الماضي، و الذي يدل فقط على استحضار الحدث تخييلياً –الآن - في ذهن القارئ ،مثل الأفعال التالية التي نجدها في أول فقرة من القصة الأولى المسماة "قوس قزح" والتي يقول فيها :" ذات صباح شتوي بهيج ، داعب عينيها قوس قزح ، انتشلها من نداءات أمهاالمتكررة ، عبرت الطريق بقدمين حافيتين ، وسخهما الطين ، أمها ما زالت تنادي ، لمتلتفت إليها ، داومت السير ، تتجه في خدر نحو ألوان الطيف الساقطة هناك على البعدنحو الأرض "فالأفعال داعب، انتشل، عبر،لم تلتفت ، داوم ، لا تعبر عن بدايةحكاية بل ترصد جزءاً من مشهد متحرك ليس حدثا بل صورة متحركة ، لقطة، حيث تبدو الأموهي تنادي ، والبنت مسحورة بقوس قزح منجذبة إليه بلا وعي مهطعة له لا تسمع نداءأمها ، وألوان الطيف تملأ الأفق الشتوي البليل ، صورة شعرية تشبه اللوحة التشكيلية المرسومة بالفرشاة، إلا أنها ذات أربعة أبعاد هي الطول والعرض والعمق والزمان .

بعد ذلك تنتقل الكاميرا إلى مشهد آخر ، مشهد الأم وهي تحاور الأب :

" قالت الأم : بنتي شغلتها النداهة .. - خلاص – لنيدخل عليها أحد ..

رد الأب : البنت لا تزال طفلة..

- هذه هيالمصيبة.

- لم؟

- النداهةستسيطر عليها وتشاغلها ..

- أغلقي الباب."

هذا المشهد لم يحدد الكاتب علاقته زمانياً مع المشهدالسابق ، مما يقربه من شكل الفقرة الشعورية في الشعر وفي الوقت نفسه يبقي على رفيفمن السرد كأنه خيط شفاف مرسوم بعلامة مائية .

ثم ينتقل الكاتب إلى لقطة ثالثة تضرب بضوئها إلى الباطن ، إلى التأمل أو الوعي ، حيث يظهر صوتكصوت الجوقة في الدراما الإغريقية القديمة :

"بمرور الوقت يغيب القوس وتتلاشى الألوان ، ولايستطيع أحد تذكر الأمر باستمرار ، وتعاود البنت حياتها بعيداً عن الغرفة المغلقة"

بعد ذلك يعود الكاتب إلى السرد ولكن بنغمة جديدة ، حيث يستخدم هذه المرة الأفعال المضارعة الدالة على استحضار الحدث ولكن حال تجدده واستمراره ، يقول :" تجملها أمها وتهندمها باستمرار ، تستدعي على عجل خراطالبنات ليخرطها .

نهدان صغيران يراوغان عينيها يوماً بعد يوم ، تبتسم البنت على استحياء ، كلما رأت عيون الصبية تختلس النظرات إليها .

ثم يعود مرة أخري إلى السرد التقليدي الذي يستخدم الفعل السردي الذي سبق الحديث عنه ، من ثم يأتي هذا التكرار كأنه قافية شعرية .

كما أن العلاقة بين هذه الصورة وما توحي به ليست قائمة على المجاز أو الكناية أو الرمز كمافي الشعر التقليدي ، وليست قائمة على استقصاء التفاصيل الموحي بواقعية الأحداث كمافي السرد التقليدي ، بل قائمة على ما يسمى في مجال الفن التشكيلي "المنظور "Perspective أو الإيحاء الناشئ من النظر إلى المشهد من زاويةمعينة ، أو من تحديد بؤرة الارتكاز في المشهد المنظور .

وهكذا نجد السرد والشعر والفن التشكيلي يسبك في قصص هذه المجموعة على شكل جديلة فنية لها شكل جديد وجميل .

وقد أتاح ذلك النهج وذلك المزج للكاتب مجالا واسعاللتجريب ، فهو أحيانا يقطع القصة الواحدة إلى سطور تشبه سطور القصيدة في الشعرالحديث ، كما هو الحال في قصة " فراشات"وقصة " سارة" وقصة "سلمى" وقصة " يعزف عبد الصمد منفرداً"

كما أتاح له أن يبدع في شكل فني وليد وهو " القصةالقصيرة جداً "وهو فن ولدته الحساسية الجديدة للذوق المعاصر ، الذوق الخاطفاللماح الذي صاحب أجيال الحاسوب و شبكات التواصل فائقة السرعة ،

فقد كسر هذا الشكل الجديد نظرية أرسطو عن مفهوم الحدث ،فقد كان أرسطو يتصور أن الحدث الجميل لا بد أن يتكون من ثلاثة عناصر ، مقدمة وذروة وحل ، لكن القصة القصيرة جداً استطاعت أن تثبت أن الجمال يمكن أن يتحقق من خلال عنصر واحد فقط ،لأن وسيلة الاتصال الفنيالذي تستخدمه لا تتطلب سوى لوحة منظورة من زاوية معينة ، لذلك نجد مجرد سقوط كوب الشاي من يد الراوي فوق جريدة الأهرام يشكل منه الكاتب قصة قصيرة جداً ،وتعاونه اللغة لأنها جزء من اللوحة يقول :" بينماأتصفح الأهرام ، وعيناي تدوران تلتهمان السطور ، فإذا بيدي تطيح كوب الشاي الذي أمامي ، فغرقت الأهرام بينما أنتشلها إذا بها تقطر دماً ، لم أنتبه ، انشغلت بتنظيف المكان"


بقلم أ. د/ عبدالرحيم الكردي
إنشر هذا الخبر :

إرسال تعليق