سليم عزوز |
ستصاب بالإحباط حتماً إذا ركزت في المشهد السياسي في مصر، أو قلدتني فيما أفعل هذه الأيام، حيث أترك جهاز التلفزيون يعمل، فأنام عليه، وعندما استيقظ يكون من أراه هو جابر القرموطي مثلاً، الوضع بالتأكيد سيختلف لو كنت تنام وتستيقظ على 'روتانا سينما'.
برامج ' التوك شو' في القنوات المصرية تشعل الحرائق، وفي واقع الأمر أن الحرائق مشتعلة، وهي تنقل الحاصل في المشهد السياسي والذي لا يسر عدواً ولا حبيباً، فقد كان الثوار أمة واحدة، والآن فإن من الثوار، أو المحسوبين عليهم من لا يجد مانعاً في أن يتحالف مع الفلول، ضد الإخوان، وحكم الإخوان تعالى على من كانوا معه في خندق واحد ودعوا إلى انتخاب الرئيس محمد مرسي، وكان موقفهم سبباً في نجاحه وسقوط الفريق احمد شفيق، في وقت تضم حكومة الإخوان عناصر فلولية بامتياز، وعزل محافظ كفر الشيخ كان مطلباً من مطالب الثوار، فإذا به يترقى في عهد الرئيس مرسي ليصبح وزيراً.
لا يحتاج ما يحدث في المحروسة، إلى خبير من أهل مكة أدري بشعابها، لينقله إلى من هم خارجها، فالفضائيات لم تقصر في هذا الجانب، وقد سهرنا ليلة كاملة أمام شاشات التلفاز على جولة كر وفكر، أمام قصر الاتحادية، وسالت دماء كثيرة عندما حضر الإخوان إلى القصر ليحموا الرئيس، ويعلنوا عن تأييدهم له، وقد نمت على مشهد الدماء المراقة، واستيقظت على خبر أليم: لقد مات الحسيني أبو ضيف، هذا الصحافي الشاب، عضو الحركة المصرية من أجل التغيير 'كفاية'، الذي اقتربت منه في الفترة الأخيرة فوقفت على أنه شاب يعيش مثالياته، ولا يزال إلى الآن في مرحلة 'الطهر الثوري'، كانت أسرته تتحدث في 'اون تي في'، فلم استطع ان أكمل المشهد، وفي اتصال هاتفي بالزميلة عبير السعدي عضو مجلس نقابة الصحافيين، بكت فأبكت قلوبنا.
في آخر النهار، علمت ان الحسيني لم يمت، لكن قلبي لم يكن فيه ركن يمكن ان يستوعب الرسالة ويسعد بأن زميلنا لم يفارق الحياة، وان كان يعيش بين الحياة والموت، شعرت ان قلبي أحرقه الحزن طيلة اليوم، والقلوب المحروقة لا تعرف السعادة بالتأكيد.
نمت ليلتي على صوت والده القادم من الصعيد عبر احدى الفضائيات وهو يسأل الرئيس محمد مرسي بعفوية أهلنا هناك: ماذا فعل ابني لتقتلوه؟.. 'إذ يغشيكم النعاس آمنة منه'، واستيقظت على شقيقه مع جابر القرموطي وهو يروي ما جرى مع الحسيني بحسب ما رواه لهم شهود عيان، وكانت عبير السعدي ابنتنا سنّا، وأمنا بمشاعر الأمومة المتدفقة فيها، في البرنامج ولم تعد لي القدرة لمتابعة سيل المشاعر الحزينة المكلومة فقمت لأكتب هذه السطور.
في هذا الوقت المبكر من صباح الجمعة (أمس) كان برنامج جابر القرموطي على 'اون تي في' في مرحلة الإعادة. وقد أذيع أن رجل أعمال تونسي يعمل في باريس، قام بشراء المحطة من صاحبها رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس، ولا نعرف ما إذا كان قد تم تحميله بجابر 'على البيعة' أم لا؟.. لكن ما نشر عن الصفقة ان ألبير شفيق مدير عام 'اون تي في' والعضو المنتدب جري الاتفاق على استمراره في العمل، على نحو جعلني أتشكك في قصة عملية البيع من الأساس، وربما كانت خطة تكتيكية لحماية القناة من بطش الحكم الاخواني، بعد أن ضاقت مساحة المناورة التي كانت شاسعة في السابق أمام نجيب ساويرس، بشكل جعل الرجل وكان من رجال الأعمال المحظوظين في عهد النظام البائد، وظل يناصره حتي اللحظة الأخيرة من عمره، يتصرف على انه 'والد الثورة المصرية' ومفجرها، وأن محطته الفضائية كانت في أيام الثورة على خط النار.
خطاب الرئيس
حلقة جابر القرموطي المعادة، كانت قبل أن يلقي الرئيس محمد مرسي خطابه، الذي الذي ظللنا ساعات طوال ننتظره، وفي النهاية قرأت على شريط الأخبار بقناة 'الجزيرة مباشر مصر' أنه وصل بحول الله مسجلاً إلى مبنى ماسبيرو، حيث مقر تلفزيون الريادة الإعلامية، وكان هذا قبيل الساعة الثامنة مساء الخميس، على نحو ظننت معه ان الخطاب قدم من صحراء نجد على ظهر ناقة أوشكت على الهلاك.
عندما دلفت من باب ماسبيرو، لكي احل ضيفاً على احد البرامج، كانت الساعة تقترب من العاشرة مساء، ولم يذع الخطاب، وفي طريقي إلى صالون الأستوديو سمعت من يقول أن مشكلة في التسجيل هي سبب التأخير وقيل ان الرئيس سيبث خطابه بسبب هذا على الهواء مباشرة من قصر الاتحادية، ولم أكد أجلس حتى شاهدت الرئيس على الشاشة، وعبارة 'بث مباشر'، فهل كان بثاً مباشراً فعلا، أم جرى التعامل مع الخطأ ونحن أمام الخطاب المسجل القادم من صحراء نجد؟
القرموطي ينتمي إلى مدرسة في الإعلام الفضائي شعارها ان التعليم في 'الراس وليس في الكراس'، والرأس إشارة إلى العقل، وينتمي إلى هذه المدرسة إبراهيم عيسى، ومجدي الجلاد، وخيري رمضان، وعمرو أديب، ويعد توفيق عكاشة ناظر هذه المدرسة 'الرصينة'، الذي أكد في برنامجه 'الملاكي' قبل إغلاق قناة الوالدة: 'الفراعين' عدم جدارة الدكتور محمد البرادعي بتولي منصب رئيس الجمهورية لأنه لا يعرف كيف يتم ' تزغيط ذكر البط'؟!.. كما أنه لا يعرف كم عوداً في حزمة الجرجير؟!.. ولأني اعرف الإجابة على السؤال الأول واجهل جواب الثاني فقد فقدت الأمل كلية في أن أكون رئيسا لجمهورية مصر العربية في يوم من الأيام.
قديماً كانوا يقولون لكي يعمل المرء مذيعاً لابد من ان يجتاز دورات في هذا المجال، وهناك مراكز للتدريب في المحطات التلفزيونية الكبرى، وحتى التلفزيون المصري في ظل فساد أحواله يوجد به مركز معتبر لكن تلاميذ مدرسة توفيق عكاشة دخلوا الاستوديوهات بدون تدريب، ولا بأس فناظر المدرسة تخرج في تلفزيوننا الرائد، لكنه تفوق على نفسه.
كان جابر القرموطي غاضباً لتأخر إذاعة خطاب الرئيس، ولم يكن وحده الغاضب، فقد بدت لي جماعة الإخوان، منذ بداية الأزمة إما أنها واثقة جداً من نفسها، وإما ان عدوى العناد انتقلت إليها من الرئيس الراحل، فردة فعل الرئيس تأتي دائماً متأخرة، وما أشبه الليلة بالبارحة.
مطالب المعارضة
عندما انتهى الرئيس من خطابه سئلت عن تأثيره على 'جمعة الكارت الأحمر'؟.. وأجبت: لا تأثير!.. وهذا هو بيت القصيد.
الرئيس لم يستجب في خطابه لمطلب رموز المعارضة، التي أعلنت انه لا حوار قبل سحب الإعلان الدستوري، ووقف الدعوة للاستفتاء على الدستور الجديد، ولست على يقين من أن الرئيس لو فعل هذا سوف تجلس المعارضة معه على مائدة المفاوضات!
فالأزمة في مصر ليس مردها الإعلان الدستوري الجديد للرئيس محمد مرسي، فهي سابقة على ذلك، وحدّة خطاب المعارضة هي نتاج حالة الانقسام السياسي، وجاء الإعلان الدستوري ليقدم مبرراً موضوعياً لهذه المعارضة ويؤكد صحة موقفها، ثم جاء مشروع الدستور الجديد الذي صدر بعد انسحاب ممثلي القوي المدنية ليمثل مبرراً جديداً.
ومن عجب ان الذين انسحبوا من الجمعية التأسيسية في آخر مراحلها، لم يستجيبوا مبكراً لدعوة من طالبوا ببطلان تشكيل الجمعية لأنها لا تعبر عن الشعب المصري كله، فأغلبية تشكيلها من التيار الديني. والمنسحبون الان رضوا أن يكونوا باستمرارهم فيها أداة تستخدم لبطلان دعوى المتشددين بأن الجمعية لا تعبر عن التنوع في الشارع المصري.
لقد قالوا إن سبب انسحابهم راجع إلى نصوص تم إقرارها وهم يرفضونها، لكن أعضاء في الجمعية التأسيسية اظهروا على شاشات التلفزيون توقيعات المنسحبين بالموافقة على المواد الدستورية التي قالوا انها سبب انسحابهم ولم يعقبوا.
الأزمة سببها في الواقع، أن القوى المدنية التي انحازت للرئيس مرسي في جولة الإعادة شعرت أنها خدعت وضربت على 'قفاها' فقد كانوا يظنون أنهم سيكونون شركاء 'في الحلوة' كما كانوا شركاء 'في المرة'، وهذا أمر ضد طبيعة ' الكائن' الاخواني الذي هو بالفطرة شعاره: ( أنا كالفريك لا أحب شريك)، وكل من وقفوا مع الإخوان في أيام المحن والاعتقالات، تعالى عليهم الإخوان وتنكروا لهم عندما رأوا بشائر النصر، وفي الواقع ان حالة الاستعلاء التي تملكت 'الكائنات الاخوانية ' بدأت منذ لحظة الاستعداد للانتخابات البرلمانية، وبعد فوزهم بالأكثرية قالوا: لن نهزم بعد اليوم من قلة، لدرجة ان كاتباً إسلامياً بحجم فهمي هويدي شكا يوماً ان قيادات الجماعة وحزبها لا يريدون على اتصالاته الهاتفية.
في جولة الإعادة، وجدت القوي المدنية نفسها في مأزق، فإذا لم تقف مع محمد مرسي فان هذا يعني فشل الثورة وعودة النظام القديم، ممثلاً في الفريق احمد شفيق الذي يقول ان مبارك قدوته، وأنه سيعيد جهاز امن الدولة المنحل وسيئ الصيت، وكان الإخوان قد عادوا كائنات بشرية تمشي على الأرض كما هي عادتهم في وقت الشدة، بعد ان كانوا يحلقون في الفضاء الخارجي في وقت الرخاء.
بنجاحه وجد الدكتور محمد مرسي نفسه في حل من كل الوعود والاتفاقات مع القوى المدنية التي تحالفت معه، وانفرد وجماعته بالسلطة، وكان أصحاب الحظوة عنده هم أصحاب القامات المنخفضة، وفي كل المجالات.
ووجد المتحالفون معه أنفسهم في حرج بالغ، فأعلنوا واحداً تلو الآخر عن اعتذارهم للانحياز للرئيس، وفي الأيام الأولى كان واحد مثل بلال فضل رمية حكم الإخوان بدون رام منهم، للهجوم على معارضيه، والسخرية من حمدين صباحي، الذي تعد مشكلته انه حلم بكرسي الرئاسة ولم يتمكن احد إلى الآن من إيقاظه من نومه ليتوقف الحلم، وكأنها 'النومة الأبدية'.
منذ فترة اختفى بلال فضل كلية من المشهد، وقيل أنه أغلق حسابه على 'تويتر'، وكان واضحاً انه في 'فاصل' ينتظر اللحظة لينتقل من شاطئ إلى شاطئ، وعندما استيقظت من نومي كان متحولاً في لقائه مع يسري فودة، كان أيضا في الإعادة، وقبل إعادة جابر القرموطي.
الفرصة التاريخية لتحول بلال فضل لممارسة التحول كانت في خطاب مرسي، الذي اعترض عليه، وقال انه لا يفي بالمطالب، ولا يقدم حلا للأزمة المشتعلة.
وتبدو هذه الأزمة غير قابلة للحل، وعبر عنها حافظ المرازي، عندما استضاف اثنين من المصابين في الأحداث الأخيرة احدهما ينتمي لحزب 'الحرية والعدالة' الاخواني، والثاني ينتمي إلى القوي المدنية، كلاهما وسعهما 'ميدان التحرير' في أيام الثورة.
كان كل منهما يروي لحافظ كيف أصيب، ولم استمع إلى حكايتهم كاملة فقد سرحت بخيالي، كيف لو أن احدهما أصيب في موقعة الجمل، فحتماً كان سيحمله الآخر بين ذراعيه ويعمل على إسعافه.. الوضع اختلف الآن وصار بأسنا بيننا شديداً.
انها السلطة، وليست المشكلة فقط في من جاءت إليه ويعض عليها بالنواجذ، ولكن في من حلم بها ولم يتمكن منها.
ملعونة دنيا وآخرة
|
إرسال تعليق