جلست في البلكونة أشعلت سيجارتي، أحتسي قهوتي، الصداع يطوق رأسي أثر صخب و ضجيج البارحة، ليلة الأمس كان لدى جيراننا في أول شارعنا حفل عرس. سرادق كبير، مكبرات للصوت، فرقة موسيقية و (فكهاني بوق) الذي جسد شخصيته الفنان طلعت زكريا في أحد الأفلام السينمائية. أدام الله أفراحنا و سرورنا، لكن هناك ضوابط كنا نراعيها في السابق كموعد نهاية حفل العرس و الصخب بألا يتخطى مدتها الزمنية منتصف الليل أي الثانية عشر. الآن و في زمن الانفلات في كل شيء أنفرط حبل الأدب و الحس معاً لينتهي حفل العرس مع رفع مؤذن المسجد أذان الفجر. ليت الأصوات التي تترامى على مسامعنا تشفع لها عذوبتها، أقل ما توصف أنه نعيق أو نهيق و الأخيرة أعذب منها بمراحل.
ظهيرة الأمس كنا على موعد مع أصوات تشبه الأصوات سالفة الذكر إن لم تكن تشبه بائعي الطماطم في سويقة، إنها مسيرة. صباح الأمس سيارة نصف نقل يعلوها مكبر للصوت معلناً عن منظف صناعي و أخرى تعلن عن شراء مخلفات و أي أشياء قديمة لديك. طيلة اليوم و كل يوم إزعاج في إزعاج..... لدينا مرسوم بقانون صادر في العام 1948يحد من هذا الصخب و الضوضاء، ضمن بند العقوبات به مصادرة مكبر الصوت و غلق إداري للمنشآة التي قامت بتركيبه و غرامة مالية. هناك غرامة مالية توقع على صاحب الفرح الذي تسبب في إزعاج الآخرين و أقلق راحتهم بغض النظر عن أن بينهم مريض أو مسن أو طالب علم يستذكر دروسه.
بائع المنظفات يقع تحت طائلة حزمة من القوانين غير القانون الخاص بإزعاج الغير و هو تداول منتجات غير معلومة المصدر أو أنتجت في منشأة غير مرخصة و يقع تحت بند الغش و التدليس و عقوبة الأخيرة حبس وجوبي لمدة عام و عشرة ألاف جنيه غرامة. غير أنه قد تسبب ضرراً لمستخدمي تلك المنتجات مجهولة المصدر و هب الأخرى لها قانون.
ملخص القول أن عصا القانون غائبة أو أنها غير مغلظة بالشكل الذي يردع هؤلاء عن فعلتهم و أفعالهم التي ليس لها ضابط و لا رابط. إنه الإنفلات القيمي و الخلقي الذي طال كل شيء في حياتنا و لا حياة لمن تنادي. إنها اللامبالاة لدى جموع الناس فرغت من احتساء قهوتي و حيث أن بداية حديثنا كان بفرح فطرب قلبي و تغنى عقلي و وجدتني أغني و لما لا؟ إن صوتي رغم قبحه إلا أنه أجمل كثيراً من صوت مغني الأمس. وجدتني أقول و أتغنى بأغنية أحد المطربين القدامى و أسمع السكون من حولي: "لا فيه أجمل من عزيزة، و لا أحلى من عزيزة، أنا عندي كام عزيزة"... و من فرط سعادتي أطلقت يا ليل وصل صداها أول الشارع و أخره، و أصبحت بعدها يا عيني! انشقت الأرض و وجدت أمامي مكتب التحقيقات الفيدرالية يستجوبني و يستنطقني و طرح علي السؤال بصيغة الاستفهام التعجبي: "عزيزة دي مين؟!" أجبت بثبات محاولاً الإفلات و قلت: " الحاجة عزيزة زميلتي في الشوغل اللي طلعت معاش من سنتين، الحاجة عزيزة أم صاحبي و دي ماتت من خمس سنين و كان عندها 85 سنة، عزيزة زميلتك في إدارة الاستحقاقات، عزيزة صاحبة محل الملابس اللي بتشتروا من عندها". و في سري عزيزة جميلة الجميلات. بس و لقيت لك نفسي نايم على سرير كله أبيض في أبيض، حوليا الأصحاب، الزملاء، الجيران، المعارف. منهم اللي شايل حزمة ورد و تاني شايل علبة شيكولاته متاكلة قبل كده، و اللي مسنود ع التاني، و حكوا لي على اللي حصل بعد كده. ده بعد ما طلعت م العتاية المركزة. إنها عصا القانون!
في البلكونة إبراهيم غانم...
إرسال تعليق