بقلم - سليم عزوز:
رئيس تحرير جريدة الأحرار
سبحان من يغير ولا يتغير، فلم يكن مباحاً للدراما في مصر أن تنتقد أداء ضباط الشرطة. وشخصية الضابط في الأعمال الفنية هو هذا الرجل الشهم، الذي لا يعرف المجاملات أو المحاباة، وهو يحرص على تطبيق القانون، ومستغرق في حب الوطن، وفي أداء عمله، وان كلفه هذا إن يقصر في حقوق أهل بيته!
أي عمل درامي لم يكن له ان يحصل على جواز مرور للشاشة، إلا بعد موافقة جهاز متخصص يتبع وزارة الداخلية، وذلك في إطار عملية 'بولسة' الحياة، فجهاز الأمن كان بيده مفاتيح كل شيء، وكان صاحب القرار في مصر المحروسة، وحسني مبارك الذي شاهد السادات يقتل على يد ضباط الجيش، لم يعط ثقته كاملة إلا لجهاز البوليس، والذي توحش في السنوات الأخيرة، وأصبح وزير الداخلية حبيب العادلي، هو الآمر الناهي في البلاد، الى درجة ان يعلن بدون خجل أو وجل أن هواتف المصريين كلها خاضعة للمراقبة، وأن من يخاف من الكلام لا يتكلم، وذلك على الرغم من ان هذا العمل يمثل انتهاكاً صريحاً لنصوص في الدستور تحظر مراقبة الناس والتدخل في حياتهم الخاصة إلا بموافقة النيابة العامة. ولم ينتقد كلامه أحد، ولم يقل له احد: عيب!
بعد الثورة كان لابد من ان تتغير الأمور، وقد انهار جهاز الشرطة، وحرص عدد من قياداته الفاسدة على استمرار انهياره، فهم يقودون البلاد في طريق الفوضى، لكن ليس هذا هو الموضوع!
لقد بدأت الدراما تتعرض لممارسات أهم جهاز داخل وزارة الداخلية، وهو جهاز مباحث امن الدولة، الذي كان مبارك يحرص بنفسه على ان يقيم جسراً من الاتصالات مع قياداته، الى درجة أن واحداً من قياداته في احدى محافظات الصعيد كان يفخر بأن مبارك على اتصال مباشر به بدون المرور على رؤسائه، وقد مكنه هذا من أن يلقي عدداً من الشباب المنتمي للجماعات الدينية من نافذة مكتبه فيموتوا في اللحظة، وفي حضور شهود، كما لو كان يلقي ورقة، وعنت الوجوه لهذا الجهاز المتوحش فلم تكن تسمع حتى همساً.
لقد بدأت الأعمال الدرامية تقترب من 'المسكوت عنه'، وتعرض احدى المحطات التلفزيونية الآن عملا يكشف ممارسات هذا الجهاز، وان كان يقدم نموذج ضابط امن الدولة 'الطيب' بجانب النموذج الشرير، وأسوأ ما فيه هو المباشرة.
قبل أسابيع انتهيت من مشاهدة مسلسل 'خاتم سليمان' على فضائية 'النهار'، وقد علمت ان عرضه الأول كان في رمضان الماضي، ومثل هذه الأعمال على قلتها، ظلمت لأنها عرضت في وقت كانت الأنظار كلها فيه تتجه لمتابعة الربيع العربي.
قناة 'الجزيرة' تخسر عدداً كبيراً من مشاهديها في شهر رمضان لانشغال الناس بمتابعة الأعمال الدرامية، والبرامج التلفزيونية 'الخفيفة' المسلية التي تستضيف الفنانات، ويكون الحديث عن أول قصة حب، وأول 'واقعة زواج'، وكم عملية تجميل؟!، وبطبيعة الحال فان معظم الفنانات يعلن في ثقة أنهن مولودات هكذا، ولم يتدخل مشرط ليعدل مائلاً، أو يضبط شفاها تجاوزت 'الحيز السكني'، أو لتصغير أسنان اخترقت 'المجال الجوي'!
لكن ' الجزيرة' والفضائيات الإخبارية الأخرى لم تخسر مشاهديها في رمضان الماضي، فلم يقدم المشاهد على الأعمال الدرامية، وكان الإنتاج قليلاً لهذا، ولم يعد نسمع عبارة 'حصري' هذه، وتلفزيوننا المفدي كان يعلن سجعاً بالقول: 'حصري على التلفزيون المصري'!.
الموت في زمن القيامة
عندما شاهدت مؤخراً 'خاتم سليمان' تذكرت بيت شعر نصه:
من مات في زمن القيامة.. لم يجد له بين الأنام مشيعاً.
ربما قيل في سيد درويش الذي مات يوم عودة الزعيم الوطني سعد زغلول من المنفى، والذي لم يشعر احد بموته، لأن مصر كلها خرجت لتستقبل الزعيم، تماماً كما مات طه حسين في أيام حرب أكتوبر، وهو صاحب مقولة: 'التعليم كالماء والهواء'، و'فرنسا بلد الجن والملائكة' وذلك على أيامه، أما الآن فقد غادرتها الملائكة وبقي ساركوزي!
المهنية هي الطاغية في 'خاتم سليمان'، والذي دشن نجومية خالد الصاوي، وهو سليمان الطبيب والجراح المعروف عالمياً، والذي على الرغم من هذا يعيش حالة اقرب الى المتصوفة، ولا تروق طريقته في الحياة لزوجته رانيا فريد شوقي، القادمة من حي السيدة زينب الشعبي، لكن كانت لديها تطلعات طبقية، وتمكنت من ان تعيش دور الهانم.
رانيا قدمها والدها الراحل الفنان فريد شوقي لتحتل مكانة 'شريهان'، وأنتج لها فيلما خصيصاً ليقدمها كفنانة استعراضية، وفشلت، لكنها شقت طريقها بعد هذا في مجال التمثيل العام، وهي تقوم بدور المرأة الشريرة السيئة، فتجعلك تكرهها في الواقع وفي التمثيل. وقد ظهرت في 'خاتم سليمان' وكأنها قادمة تواً من عند طبيب التجميل، الذي تدخل بمشرطه فرقق من شفتيها، وضبط ذلك في إطار المسموح به، فلم يكن مطلوباً منه ان يصنع منها 'نانسي عجرم'، ولم تكن بحاجة الى عملية تغيير كلي على النحو الذي أقدمت عليه 'شيرين'، التي تحولت الى شخصية أخرى مغايرة لتلك التي كنا نشاهدها من قبل، فنعتقد أنها من سلالة 'عائشة الكيلاني'، التي هي سعيدة بأنها ليست جميلة، وتجد أدواراً لها استناداً لأنها كذلك، ولولا اختلاف الأدوار لبارات الممثلات!
في رمضان القادم لن يكون غريباً ان نشاهد رانيا فريد شوقي مع محمود سعد وبعد ان يطلب منها ان تشرب العصير، يسألها: كم عملية تجميل أجرتها؟.. وبالقطع سوف تقول انه لم يضرب فيها مشرط!
ورطة الإسلاميين
لن نستطرد في هذا الجانب حتى لا ينظر السلفيون في البرلمان على أنها رمية بغير رام، ويذهبون الى مجلس الشعب يطالبون بمنع ممارسة عمليات التجميل لأنها تغيير في خلق الله، وذلك لان نواب حزبي الأغلبية في مصر في ورطة الان!
فالمجلس العسكري الحاكم أعادنا الى مرحلة الزعيم جمال عبد الناصر، وقاد حرباً ضروساً ضد البيت الأبيض، في إطار حملته على التمويل الأجنبي، وألقى القبض على تسعة عشر أمريكياً في قول، وستة عشر في قول آخر قال إنهم متهمون بتقديم تمويلات لمنظمات مصرية، وذلك في إطار سعيه لرفع شعبيته بعد ان انخفضت في الشارع المصري لتصبح في حدود شعبية مبارك، وشعبية المخلوع لم تتجاوز الذين يستفيدون من وجوده بشكل شخصي!
كان شباب الثورة الذي غادر ميادين النضال الى البيوت، قد عاد إليها مرة أخري وأصر بمناسبة مرور عام عليها على أن الثورة مستمرة، في وقت حرص المجلس العسكري وحلفائه من التيارات الدينية على ان يكون احتفالاً مهرجانياً كمهرجان عيد الأم، ويجوز شرعاً في الأعياد 'التوسعة على العيال'.
كان الهتاف بسقوط حكم العسكر، هو الشعار المعبر عن الثورة المصرية بعد عام من قيامها، وخرجت المسيرات الحاشدة من كل مكان تستهدف حصار مقر رئيس المجلس، ولان أهل الحكم ولاؤهم لمبارك الذي اجتباهم من قبل ومن بعد، فقد تفتق ذهنهم عن الدخول في حرب مع الأمريكان وفي غيبة جمال عبد الناصر، وامسكوا في قضية التمويلات الأجنبية بأيديهم وأسنانهم، وذلك في معرض تشويه الثورة المصرية، وتقديم من يرفعون شعار سقوط حكم العسكر على أنه يتم تمويلهم من قبل البيت الأبيض.
ودخل مجلس الشعب المعركة بكل ثقله منحازاً للعسكر، وباعتبار ان المصائب يجمعن المصابينا..
الإسلاميون يرون ان الثورة أدت كل ما عليها بما حققته لهم وقد استحوذوا على الأغلبية في البرلمان بغرفتيه، وبعض النواب لم يكونوا لا باختيارات الشكل ولا بالموضوع مؤهلين للسير على الرصيف الذي يوجد به البرلمان.. لكن ربك لما يريد!
البعض يتهمني بالتحامل على القوم، الذين وقفت بجانبهم في كل المحن التي مروا بها بما فيها عندما تحول التلفزيون المصري الى أداة للتشهير بهم.. لا بأس أنا متحامل، لكن من حسن الحظ انه يتم البث المباشر للجلسات فشاهدوها على ألا تتعاملوا مع الموقف بجدية، فتطالبوا بوقف البث باعتبار ان الله حليم ستار، ولكن خذوا الأمور بروحة رياضية، وسوف تكتشفوا أن جلسات المجلس ما هي إلا وصلة تسلية، تتفوق على برامج 'عزب شو'.
في الساحة
مصر كلها احتشدت ضد الأمريكان وضد التمويل الأجنبي، ونظرت حولي ووجدت نفسي بمفردي في واد غير ذي زرع، فالأغلبية ضد الأمريكان والذين من دونها هم من قبضوا المعلوم من السفارة الأمريكية بالقاهرة، ولأنه عز على ان أكون في كل المعارك في ساحة بمفردي ولأني لم احصل من أحد على تمويل ولو دولارا واحدا، فقد حملت سلاحي وذهبت الى ساحات الوغي منحازاً للمجلس العسكري، وإذا بي أجد القوم ومعهم الأغلبية عائدين من على خط النار، منكسي الرؤوس، فهكذا اذهب دائما متأخراً انا!
سألتهم ماذا جرى؟ لم يرد احد، فقد هزموا، وتم إخراج المتهمين الأمريكيين الذين مدوا الخونة بالمال الأمريكي الحرام ليقفوا ضد المجلس العسكري كما وقفوا من قبل ضد الحكم الوطني الذي يمثله مبارك.
لقد تم انتهاك السيادة المصرية بما حدث، والى الآن لم نعلم من الذي أصدر القرار بإطلاق سراحهم وهم الذين يحاكمون الآن، وقد تنحى القاضي استشعاراً للحرج لان السفيرة الأمريكية تدخلت في القضية.
وبقي دور مجلس الشعب، الذي يطلق عليه البعض برلمان الثورة، ويرون ان الشرعية من حقه ولا شرعية للبرلمان.
لا بأس، أنا مستعد ان اذهب في حشد قتال محلقين ومقصرين الى مجلس الشعب ونقر بان الشرعية للبرلمان وليست للميدان، وهنا فان على البرلمان ان يقوم بدوره في محاسبة قادة المجلس العسكري، على ما أقدموا عليه، فمن سلطة البرلمان المنتخب ان يراقب اعمال السلطة التنفيذية، وما جرى جريمة مقرونة بالفضيحة.
وقد يجد مجلس الشعب في قضية تحريم عمليات التجميل قضية تشغله عن ان يقوم بأدوار تدفعه للصدام مع العسكري الحليف التكتيكي للإسلاميين.
مسلسل ' خاتم سليمان' كشف لنا كيف كانت تحكم مصر قبل الثورة، بدون الانحراف الى المباشرة البغيضة، وقدم لنا جرائم جهاز مباحث امن الدولة في حق الوطن بدون ان نسمع خطبة، فقد جرى تلفيق قضية بيع الأعضاء للطبيب سليمان، لأنه عرف ما تقوم به زوجته مرشحة الحزب الوطني الحاكم لعضوية مجلس الشعب، من بيع للأعضاء في مستشفى يملكه، وأحكمت القضية على نحو لم يتمكن فيه أصدقاء سليمان من وجود ثغرة لإخراجه من السجن، لكن الثورة قامت، وفتحت السجون وخرج صاحبنا من سجنه وسقط جهاز مباحث امن الدولة.
لقد نقل المسلسل وقائع حية من الحشود البشرية والاعتداء الأمني الغاشم عليها يوم جمعة الغضب، ولا أنكر انني خفت بأثر رجعي.. فقد كنت وسط هؤلاء في المواجهة.. وقد قال لي زميلي الذي استمع من مسؤول بمكتب حبيب العادلي عن خططه للتنكيل بي، وعن رد فعله عندما يتم نقل مقال لي انتقده فيه، او وقائع جلسة خاصة ذكرته فيها بما يكره.. انه خاف عليّ بأثر رجعي. وقلت له ان المرء عندما يواجه محنة فان الله يمده بمدد من عنده يجعله يظن انه يمكن ان يواجه حلف الناتو بمفرده.
إن مسلسل ' خاتم سليمان' واحد من الأعمال الدرامية الجادة لمؤلف لم اسمع اسمه من قبل هو محمد الحناوي.
إرسال تعليق