Home » » قراءة فى أوراق من السيرة الذاتية للروائى فؤاد حجازى

قراءة فى أوراق من السيرة الذاتية للروائى فؤاد حجازى

رئيس التحرير : Unknown on الثلاثاء، 11 ديسمبر 2012 | 1:56 م




بقلم محمود الديداموني

السير الذاتية فن من أجمل فنون الأدب وأكثرها قبولاً ورواجاً وأصبحت فناً يزداد الاهتمام به في العصر الحاضر، وهذا النوع من الفن لا يحتل مكانته وخاصة في العالم العربي.. بينما نرى أدب السيرة الذاتية يتميز ويزدهر في الغرب وتحفل به دور النشر والصحافة والإعلام في البلدان الغربية ولقد حالت المعوقات النفسية دون ازدهار أدب السيرة الذاتية في الشرق بما ينطوي عليه من اعترافات صريحة.. أما ميخائيل نعيمة فيقرر في سيرته الذاتية (سبعون) إن حكاية ساعة واحدة من ساعات العمر أمر صعب فكيف يمكن حكاية سبعين سنة.
إن مجال السيرة الذاتية نوع من أنواع الأدب وتتميز بأن كاتبها يكشف عن خبايا نفسية ويعرض حياته وتربيته وأساليب تعامله وما اعترى حياته من تجارب وخبرات وذكريات وممارسات وما واجهه من متاعب وما صادفه من مواقف طريفة ومثيرة وكذا توضيح الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي لازمت مسيرة عمله بحيث يكون عرضة لتلك السيرة بالوضوح والصراحة التي تعينه أن يخرج من ذاته ويقف من نفسه موقفاً موضوعياً ولا يخشى مواجهة تلك الأشياء التي مرت في حياته مهما كانت صغيرة أو كبيرة فهي تعبير عن موقف كاتبها واتجاهه وما يدور في مجتمعه من أمور وقضايا. وتتباين السير الذاتية من فرد إلى آخر وبما تنطوي عليه من أفكار وتجارب وذكريات وأخلاق ومثل وعادات وغير ذلك مما يبرزها بشكل جلي. 
منذ شهور عدة وأنا أتردد على السيرة الذاتية لكاتبنا الكبير أستاذى فؤاد حجازى ، من خلال قراءة كتابه " م الدار للنار "  الذى تعرفت فيه على فؤاد حجازى الطفل  والطالب والأسير، والكاتب، وطبيعة الحياة وردود أفعاله ،الحقيقة فى هذا الجزء قدمه ببراعة شديدة فقد كان محايدا فى طرحه ذاكرا أدق التفاصيل التى قد لا يتعرض لها بعض كتاب السيرة الذاتية ، حيث أصر كاتبنا على رسم اللوحة النفسية قبل الاجتماعية أو وازى بينهما تماما .. فكان الوصول إلى المتلقى بأسرع ما يمكن .. وهو فى كل ذلك يعقد المقارنات بين الماضى والحاضر ، اجتماعيا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا .. ففى ورقة البداية "جيلنا "يطرح التساؤلات الاستنكارية فيقول : وماذا عن البطالة المنتشرة ،خاصة بين المتعلمين ؟!
وماذا عن الجنيه المصري ، الذي كان يشترى جنيها استرلينيا ذهبيا ويفيض منه قرشان ، وقد أصبح معدنيا " ويستمر كاتبنا فى رسم ملامح جيله منذ البداية فيقول"جيل عاصر استلاب فلسطين ، وعانى ليرسخ الديمقراطية وتداول السلطة أيام الملك فاروق ، جيل حلم بالاشتراكية أيام جمال عبدالناصرن التي تمخضت عن سراب ، واستحالة تداول السلطة ... جيل عاصر انقلاب المؤشر السياسى 180 درجة من التحالف مع دول المعسكر الاشتراكي، ومناصرة حركات التحرر ، إلى الخضوع لأمريكا راعية إسرائيل ، أعدى أعداء الأمة العربية ، إلى التصالح مع إسرائيل " ص6 
نتعرف من تلك البداية على موقف كاتبنا من الكثير من القضايا السياسية وهو يقصد أن يضع القارئ منذ البداية على توجه وفكر صاحب تلك السيرة فى إطار جيله وتطلعاته ومواقفه .
ولن أستغرق طويلا فى كتاب " م الدار للنار " لكنى سأنطلق من التركيبة النفسية التى شكلت الكاتب وظلت ملتصقة به زمنا طويلا - على ما يبدو -  إلى كتاب " قرون الخروب " هناك ورقة " ابن الطباخ " إحدى الأوراق الهامة التى شكلت وجدان الطفل فؤاد وتلتها ورقة أخرى تصب فى نفس النطاق النفسى الاجتماعى وهى " موقفان لا أنساهما"..ص25
لنتأكد فى نهاية الأمر من حقيقة هامة .. أن الكتابة عنده تعنى الصدق والحياد بما لا يدع مجالا للتجمل على حساب الكتابة .. إخلاصه الأول والأخير للكتابة .. والسيرة الذاتية هنا تعد إعادة اكتشاف الذات والنبش فى ذاكرتها .. مع الوضع فى الاعتبار الموضوعية فى العرض والتناول . وأنا على يقين أن كاتبنا كان ينبش ذاكرته ويكتب أوراقه تنتابه حالة من الوجد حينا تنتهى بشعور بالاستمتاع .
ليست عملية القراءة فى هذه السيرة تبحث في التفاصيل المختلفة فى حياة كاتبنا ، بل هى وقوف على شيئين مهمين من وجهة نظرى ، يتعلق أحدهما بطبيعة الكتابة وأسلوب السرد وتنوعه وثانيهما يتعلق بالأفكار والمواقف .
قرأت روايات "الرقص على طبول مصرية " و" الأسرى يقيمون المتاريس " و" صهيل المحارم" لكاتبنا أجد أصداءها جميعا هنا أو العكس صحيح أجد أصداء تلك السيرة هناك ، بما يعنى أن كاتبنا يكتب تجربته ولا يحيد عن مشروعه الذي آمن به ، ولم يتنصل من بيئته التى ظل طويلا فى حالة رفض لها .. 
وفي " قرون الخروب " نلمح منذ العنوان حرص الكاتب على توصيف الزمن الذى سيشهد عليه وللعنوان دلالة فى الذهن الشعبى العام حين نقول نحن سنوات أسود من قرون الخرون " هو أراد أن يعبر عن زمن كامل بهذا العنوان .. وقد نجح الكاتب بكل تأكيد فى التبرير لذلك العنوان حينما بدأ الكتاب بهذا الجو العبثي الذي يصادر الحريات ويتهم بغير دليل، ويقمع الثوار فيبدأ بورقة " عزومة على بعرور " ندخل مباشرة إلى الإعتقال صنو الأسر وإن كان الإعتقال أشد قسوة على نفس الثائر أو المواطن من ذاك .. لتعلقه بحرية التعبير . وكونه يعبر عن مجتمع أحادى لمحناه فى البداية التى قرأناها فى " م الدار للنار " ذلك المجتمع الذي يقاوم معارضيه .
ولو لاحظنا فى " اكتشاف " وهى ورقة تحمل مراوغة كبيرة فالكاتب فيها يمزج بين قرون الخروب كمادة - مشروب – وبين دلالته فى الذهن الشعبى وتساؤله حين يقول : (أين هذا من قرون الخروب التى كانت أمي تدلل بسوادها على قسوة الأيام ؟)
المراوغة تكمن فى المهادنة التى خلقها الكاتب مع المدلول الشعبي للكلمة فراح يستخدم الخروب مشروبا ويصنع منه الآيس كريم .. هى حالة التكيف مع سنوات العذاب والقسوة والقهر . وكما يقول النقاد أنه المعادل الموضوعي.
نعود إلى " العزومة "التى تنصل منها د. عبدالمنعم تليمة رفيق الاعتقال .. حيث جعلها على حساب غيره .. بما يحمله السرد فى المزاوجة بين لوحتين ( خارجية – داخلية ) ، خارجية تتعلق بما حدث قبل وبعد الاعتقال .. داخلية وتتعلق بأجواء السجن وكيفية التمرس على الحياة داخله ، ولنقرأ معا تلك الفقرة فيقول : ( أتحدث مع الرقيب محادثا إياه على دكته الخشبيةوسط العنبر لإلهائه ، وأتحفه بالسجائر دوما ليغض الطرف لو لحظ شيئا ويتصادف أن يأتي سجينان ببطانية عليها الجراية، فأتحايل لأخذ المفتاح ، لأفتح الزنزانات وأوزعها .. وعندما أصل لزنزانة الدكتور تليمة، يضحك وقد أدرك ما صنعته ، وتستقر ابتسامة تنير عينيه بدهشة لا تخلو من جدية ويقول : سأعزمك على بعرور ..
ومن الملاحظ عبر هذه السيرة أن كاتبنا يطرح عالمه عبر تخوم متصلة من السرد لعوالمه الاجتماعية والثقافية والنفسية من خلال مواقف عدة .. فهو شاهد على فساد الإعلام وتوجهه ، ويعريه للقارئ .. ليؤكد على أن قرون الخروب تشكل لغة الاستمرار عبر اللوحات وتصبح تلك القرون هى الخيط المتين الذى يربط ويكبل حركة الزمن فلا يندفع للأمام إلا عبر اهتزازات آنية غير قابلة للاستمرار.

هموم المثقف وتساؤلات مشروعة :

ولأنه فؤاد حجازى الكاتب فقد تعرض كثيرا للواقع الثقافى عبر لوحات سردية مكثفة منها ما يتعلق بالكاتب ذاته ومنها ما يتعلق بالجو الثقافى العام .. فهو فى " إشكال " يوضح معاناة الكاتب فى تسويق نفسه ككاتب عبر مطبوع تكلف طباعته .. لا يريد بتسويقه ربحا .. بل ما يريده هو أن يسد ما أنفق عليه .. وهذا ما لايحدث فى مجتمع لا يتخذ القراءة ديدنا له .. ليس هذا وفقط بل إنه فى "سلامتك " يضعنا أمام واقع مكبل للحرية فهو لا يستطيع أن يقوم بطبع مجلة تحمل أفكاره وأفكار معارضه للنظام وهذا ليس بمستغرب على نظام الحكم الشمولى الذى عانينا منه جميعا لعقود طويلة .. لكن تظل الحيلة سلاحا يضرب به فى سبيل الوصول إلى الهدف المنشود فيقول ( كان الخوف من المقالات والتحليلات ذات الصيغة اليسارية وكان أن تحملت مسئولية طباعة هذا العدد فى المنصورة حيث أعرف كثيرا من أصحاب مطابعها... ، ولجأت لصديق موظف فى وزارة الشئون الاجتماعية عنده مطبعة فى الدور الأول ببيته فى منطقة على طرف المنصورة الشرقي ..الخ ) لندرك من تلك الورقة كيف كانت السلطة تتعامل مع أصحاب الرأى والفكر .. فحالة الحرب على المفكرين المعارضين معلنة دائما .
وتأتى الورقة المعنونة بـ " لقاء فى بغداد " مؤكدة على قدرة الكاتب في الفصل بين الشخص وبين كتاباته، فقد استطاع بكل حياد لذاته أن يفصل بين حكمه على شخص ألفريد فرج وبين كتاباته وحبه لمسرحه وتقديره له بينما لم يستطع ألفريد فرج أن يفصل بين رأى كاتبنا فؤاد حجازى بضعف تلك المسرحية التى نشرها د. عبدالقادر القط لألفريد وبين شخص كاتبنا فيقول : (  ... وفى اليوم التالي ت{اس الفريد فرج جلسة ، تحدث الأدباء عن تجاربهم فى الكتابة عن الحرب وتحدثت عن تجربتي فى كتابة روايتى " الأسرى يقيمون المتاريس " وبينما أنا مستغرق فى الحديث استوقفنى ألفريد فجأة، طالبا الاختصار ، دهشت فلم يتململ أحد وكان الجميع ينصتون فى اهتمام .
 وجمت عدة ثوان وقد فقدت خيط التواصل وأدركت أن الرجل قرأ مقدمة سجناء وأغضبته وتضايقت لأنه أظهر ذلك بهذه الطريقة . ).
 ولنشاهد معا تلك اللوحة التى رسمها كاتبنا فى جزء لاحق من الورقة  لألفريد فرج فيقول : ( وكانت المرة الأولى والأخيرة  التي حادثته فيها ، مع أني سبق أن عاصرته في سجن الواحات الخارجة عام 1962 ما يزيد عن عشرين شهرا ، لم أبادله فيها كلمة واحدة ، ولم أضبطه متلبسا بالكلام مع أحد .
كنت أراه رائحا غاديا فى طرقة عنبر 1، بقامته الفارعة وصدره العريض، يرتدي بنطلونا كاكيا قصيرا، يظهر فخذين سمراوين ، رافعا رأسه بشعره الأكرت، لا ينظر إلى أحد ، يسبقه أنفه الكبير . ).
الحقيقة لقد رسم الشخصية كما عهدناه دائما فى كتاباته بقدرة فائقة ... رسمها من كل جوانبها النفسية والاجتماعية والجسدية ( الداخل – الخارج ) ..بما يتيح للمتلقى أن يستنج الكثير من القراءات لتلك الشخصية .. رسمها بحياد تام أو كما رآها وعرفها .. ثم ينطلق ليحدد موقفه من شئ آخر لا يتعلق بكل ما جاء فى تلك اللوحة ، لكنه يحدد موقفه من ألفريد الكاتب فيقول : ( ولكن ما حدث لم يكن ليقلل من شغفي بمسرحه ) .
قد أكون قد استغرقت شيئا عند هذه اللوحة ربما لشيئين الأول يتعلق بردود فعل يتخذها الكاتب تشكل مواقفه والثانية تتعلق بالحياد التام والفصل بين شخصية الكاتب وطبيعة ما يكتب . وهذا ما لاحظته هنا ببراعة فائقة.
ولعل ذلك يجرنا للورقة التالية " الجائزة " حيث تنتهج اللجنة المانحة لجائزة الدولة نفس النهج فى الفصل بين ما يعرض من إبداع وبين شخصية الكاتب وتوجهه الفكرى واعتبار ذلك صكا وشهادة من المعارضين قبل الأصدقاء بفنية الكاتب واستحقاقه للجائزة،فيقول : ( هنأنى بالجائزة وقال : 
- أخذتها من فم الأسد 
إشارة إلى الدكتورة سهير القلماوى رئيسة اللجنة التى منحتني الجائزة وهى التى مهرت تقريرها بإمضائها . فمن المعروف أنها يمينية جدا وأنني يساري جدا .
قلت : هذا يشهد لها بموضوعيتها.) .
وتأتى ورقة " يوم العرض " هى الأخرى حاملة نفس الهم ولكن من طرق التعامل المجحف للهيئات الثقافية مع الكتاب وكذلك تفعل الصحف والمجلات الثقافية ، فليس هناك من تقييم حقيقى يمنح الكاتب حقه المادى . يطرح العديد من التساؤلات المستنكرة لهذا الواقع الثقافى السخيف . بينما جاءت ورقة " شكرا على الغياب " لتضعنا أمام وجه آخر أو الوجه الموازى للنشر وإنصافه إلى حد ما لو عقدت المقارنة مع ما تفعله المؤسسة الحكومية .
ويطرح الكاتب سؤالا استنكاريا .. مفاده لماذا تتعرض الكتابة عن الحرب والمقاومة للمطاردة ؟ فيتعرض للعوائق اللامحدودة التى تواجه الكاتب فى هذه الاتجاه رغم ما ذكره النقاد عن أدب فؤاد حجازى تحديدا أمثال د. مارينا ستاغ فى رسالتها للدكتوراة وهى تتحدث عن رواية " الأسرى يقيمون المتاريس" وعلاء الديب ومصطفى الشندويلى وعلى عبدالفتاح ود. حسين على محمد ود. نشوى أحمد حلمى ود. حمدى حسين  ونذكر خاتمة كلمة د. جمال عبدالناصر فيقول: (أقول ولا أجامل، وبحكم قراءاتي فى الأدبين الأمريكي والإنجليزي وروايات الحرب الكثيرة، أقول، أن"الرقص على طبول مصرية"هي من أفضل ما قرأت من روايات الحرب التى قرأتها فى الأدبين، ما يجعلني عن قناعة أعلن"فؤاد حجازي"أميرا ً لرواية الحرب فى مصر. ) . 

علاقات اجتماعية وعملية :

بحكم طبيعة العمل بالمحليات يرصد من هذا الموقع  الكثير من الفساد الإدارى ولا يغفل بحال من الأحوال بقع الضوء التى قد تتمثل فى موقف هنا أو هناك ، مظهرا فى الوقت ذاته المطاردة المستمرة من أمن الدولة ، فلم يكن أبدا بمأمن عن متابعتهم ويظهر هذا جليا فى " فى المصيف " فى كتاب م الدار للنار .. ص190 وصولا إلى " إجازة دون راتب" و " سلامتك " فى كتاب "قرون الخروب " ونرصد من أوراق العمل الكثير منها فى قرون الخروب مثلا " اللهم اعفنى من المجاملين – الجراحة – الاستقالة " . 
عندما قدم خدمة لطبيب – تعاطفا- جاء إلى شرطة المرافق على غير عادة الوجوه المترددة على المكان، ولأن الجميل لا يرد إلا بمثله أو زيادة .. يقع كاتبنا فى فخ المجاملة فيقرر الطبيب عندما زاره للكشف إثر ألم شديد بمنطقة الشرج فيقرر الطبيب إجراء عملية جراحية وهو ما لم يطمئن له .. وبمعاودة الكشف عند طبيب آخر بالاسكندرية يكتشف أن الآمر بسيطا لا يتعدى مطهرا وماء دافئا يجلس به فيقول : (فحصني الدكتور وقال : 
- لست مريضاً. 

وقبل أن أتفوه محتجاً، استمر : 

أُجريت لك عمليتان فى هذه المنقطة،فأصبح جلدها حساساً جداً. كل ما عليك أن تشترى زجاجة ديتول وقطناً. وفى كل مرة تدخل دورة المياه تطهر المنطقة وبعد عدة أيام سيختفى الألم. 
وبالفعل حدث ذلك. 
لكنى أصبت بالفزع من الجراح  الذى أراد مجاملتي بالقص فى لحمي دون ضرورة، وأن يتقاضى أجراً عن عملية كانت ستزيد من حساسية الجلد، وقد يصعب علاجها. )
 ونذهب لورقة " الصديق " التى حملت ألما شديدا عبر فترة زمنية فى حياة أستاذنا فؤاد حجازي فيقول : (كنت فى زيارة لأصغرنا، شقيقتي روكسان المقيمة فى الإسكندرية، عندما تطرق الحديث إلى شقيقتي الكبرى المتوفاة زينب، فقالت : لم تكن تذكر اسمك إلا مسبوقاً بـ صديقى. 
دهشت لمعرفتي ذلك، وبعثت الذكرى أسى أحاول مداراته دون جدوي. ) والسؤال لماذا بعثت الذكرى أسى فى نفسه ؟ .. كانت الإجابة مؤلمة .. حين يكشف لنا عن الظروف التى أحدثت تلك الأزمة النفسية داخله فيقول : (وما أن استقر عزمي.. وبدأت أدخل فى الجو المنشود وأمسك القلم، حتى طلبتني كوثر وقالت : 
- زينب تود رؤيتك. 
استفسرت عن حالها، فعلمت أنها مستقرة، لكن دون تقدم. فوعدتها بالزيارة فى أقرب فرصة. وعدت للعمل. بعد عدة أيام تكرر الطلب، وأنا أعد.. وأسوف معللاً الأمر لنفسى، أني كنت عندها من وقت قريب. وبعد عدة أسابيع، فوجئت أن الأمر قُضى. 
لا تسل عن أساى.. 
وعبثا حاولت تخفيف لومي لنفسى، أن ذهابى لم يكن ليؤخر أو يقدم ولكن السؤال كان يجلدني.. وماذا لو خطفت رجلى..؟
وقد أخبرتني كوثر أنها فى أيامها الأخيرة ظنت عدم تلبيتي، خشية العدوي. آلمني ذلك. خاصة وأن التهاب الكبد، الذى تسرطن دون أن نخبرها بذلك، غير معدٍ. وسبق أن قضيت ليلة فى جوارها. 
 وهأنذا أنهيت الرواية وطُبعت مرةً واثنتين وثلاثاً.. فماذا حدث.. ؟!.. الدنيا كما هى. 
ولماذا جعلتني الرغبة فى الإنجاز أتقاعس عمن أحببت.. وقد طلبتني مرة تلو أخرى. هل أشفقت على نفسى من صعوبة الدخول إلى جو العمل إذا خرجت منه.. 
أما كان ينبغي أن أتحمل ذلك لألبى نداء من أعزها.. 
وبعد أن خمد تأنيبى لنفسى، وبعد عدة سنوات تصرح شقيقتي روكسان أنها لم تكن تذكرني إلا بـ صديقى  فؤاد.. ويالى من صديق..! ) .
لقد جرنا الكاتب منذ البداية لنتفاعل معه مستخدما فكرة التدوير فى البناء السردي للورقة .. ننفعل بها وبأحداثها ونعيش خصوصية العائلة وحميميتها .. ويصبح الكاتب بين المطرقة والسندان فى اقتناص اللحظة الخاصة بالكتابة والولاء لها وبين خصوصية الأسرة وعلاقاتها .. فينتصر للكتابة على حساب الحقيقة الاجتماعية الثابتة .. وهذا ما جعله يطلق كل تلك التساؤلات المستنكرة لهذا الانتصار.. وإن كنت أرى أن تنحية عنصر العاطفة منحنا رواية ستظل خالدة فى  سجل الرواية العربية التى تتناول أدب الحرب . وبكل تأكيد لا يمكن السيطرة على بعض الألم الذي قد يقفز للوجدان كلما كان النبش فى الذاكرة .

 شهادات على الإعلام والرموز : 

الحقيقة أن فؤاد حجازى لم يكن ليحكم على شئ إلا بعد تجربة فهو لا يقر بفساد إلا إذا كان شاهدا عليه فلا ينجرف خلف قالوا أو سمعت .. ظهر ذلك جليا فى ورقتيه المهمتين والتى أعتبرهما شاهدتان على السلطة وإعلامها رغم ما قد يظنه المواطن غير ذلك ، فيعرى السلطة وأبواقها ويعلن  عن خييبة أمله فيهما ، فالحديث عن أدب الحرب وعن قضايا الأسرى فلماذا الاختباء؟
كشف عن ذلك من خلال لقاءات مع عمرو الليثى فى " اختراق"  ورولا مصطفى خرسا ومنى الشاذلى و محمود سعد .. الخ . فيقول عن منى الشاذلى : (  لمست أثناء الحوار اعتمادها على الفهلوة. تلتقط مني طرف الخيط، وتسرع إلى صياغة السؤال، وكأنها عارفة ببواطن الأمور. 
أين هذا مما تفعله مذيعة محطة ABC التليفزيونية الأمريكية، باربرا والترز مثلا. 
قبل التسجيل تجمع أية معلومات عن الضيف، وإذا كانت هناك مقالات عنه تقرؤها، وإذا كان كاتبا تقرأ مؤلفاته، وتلقى من تستطيع ممن يتصلون به. وتجالسه عدة مرات، تناقشة وتتعرف إليه. 
فإذا ما حان وقت البث، تصبح على دراية كاملة بمن تحاوره، ويأتي اللقاء ممتعا، حافلا بالمعرفة، ويغدو وثيقة حية، يمكن الرجوع إليها. 
وبعد أن انتهي الحديث، اكتشفت أن هذه القنوات لا تختلف كثيرا عن قنوات التليفزيون الرسمي، الداعمة للسلطة. حقا تثير موضوعات لايثيرها هذا التليفزيون، لكنها تفعل ذلك، بما لايمس جوهر النظام. وينسدل ذلك على الجميع .
والحقيقة أن موقفه من هيكل عبر تساؤلات مستمرة ومعارضة يكشف لنا الكثير من الأمور ويضعنا أمام اتجاهين مختلفين تماما ، يستطيع القارئ أن يخرج منهما برؤية فيقول :
وما أردته بالرد على الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل هو أنه مولع بالمغالطات وقلب الحقائق. فى حديث من سلسلة أحاديث أدلى بها إلى قناة"الجزيرة"الفضائية فى قطر، ذكر أن شركات النفقط الأمريكية، لم تساند اسرائيل ضد العرب، خوفا على مصالحها النفطية. وقال أن الرئيس الأمريكي ترومان يكره اليهود، وأن أمريكا لم تؤيد إسرائيل إلا بعد أن حلت الهزيمة بالعرب فى حرب 1948.
أي أن الخيبة العربية هي سبب الانحياز الأمريكي لإسرائيل. 
وأردت أن أذكر الأستاذ، المتمنطق بالوثائق دائما، أن يعود إلى مجلة"الطليعة" التى كانت تصدر عن مؤسسة"الأهرام"التى كان يرأس مجلس إدارتها. فقد نشرت هذه المجلة محاضر مجلس الشيوخ المصري عشية حرب 1948. 
ويتضح منها أن أمريكا هددت بقطع المعونة عن مصر إذا هي دخلت الحرب ضد اسرائيل، ولم تكن الخيبة قد ظهرت بعد. واستمرت أمريكا فى الضغط على الحكومة المصرية، بعد ذلك. 
ونذكره أن أمريكا اعترفت بإسرائيل بعد ثلاث دقائق من إعلان اسرائيل قيام دولتها فى 15 مايو 1948، ولم تكن الجيوش العربية قد دخلت أرض فلسطين.. وبانت خيبتها. 
ونذكر الأستاذ أن القرار السياسى الأمريكي، لا صلة له بحب أو كره الرئيس الأمريكي لليهود أو غيرهم، ولكن الذى يقرر هذه السياسة هم سادة الاحتكارات الصناعية، وشركات النفط ورجال المال، حفاظا على مصالحهم. دون مراعاة لمشاعر الشعب الأمريكي الذى يكره اليهود ويحتقرهم، ومازالت حتى الآن لافتة معلقة على باب فندق والدورف استوريا بنيويورك، مكتوب عليها : ممنوع دخول الزنوج واليهود والكلاب . ). ويظل الحدي مستمرا حتى نهاية الورقة الكاشفة للكثير من الجوانب وشاهدة على هذا الزمن الموصوم بالسواد . 
ثم يقدم كاتبنا موقفه من أحمد زويل العالم الأمريكي الكبير، ويؤكد بالمنطق فيقول : الرجل أنجز علمياً.. هذا حق.. ومفخرة للجميع.. 
لكن موقفه الوطنى ليس كذلك. هاجر من مصر مبكراً إلى أمريكا، وحمل جنسيتها. وفى محاوراته التليفزيونية، وعلى صفحات الجرائد، متمتعاً بنجوميته، بعد نوبل، ذكر أنه أصر على إضافة عبارة"المولود فى مصر"إلى اسمه فى براءة حصوله على الجائزة. فلو حصل على الجائزة كمصرى، لما كان هناك داعٍ لهذه الإضافة، لكنه حصل عليها كأمريكى. وهو لم يغادر أمريكا إلى السويد لاستلام الجائزة إلا بعد أن سدد الضريبة المستحقة على قيمة الجائزة. 
وفى محاورة تليفزيونية مع الأستاذ مفيد فوزي، ذكر الأخير ما تردد عن زيارته لإسرائيل. رد الرجل أنه فاز بجائزة معهد وايزمان فى اسرائيل، ويشترط لتسلمها الذهاب إلى إسرائيل. وصمت مفيد خجلاً أو تأدباً، وكان يستطيع القول : طيب يا سيدي ما ترفض هذه الجائزة حفاظاً على شعور المصريين. 
واستطرد الدكتور.. أنه لا يلتفت إلى هذه المسائل.. فهو يهتم بالعلم فقط. أي أن العلم لا وطن له، ومن حقه أن يذهب إلى أي مكان من أجله. وفى سبيل ذلك يعقد المقارنة بين زيارة زويل لإسرائيل وما فعله الكاتب على سالم فيقول : (أنا فى حيرة من موقف المثقفين المصريين ورجال الإعلام. عندما ذهب الكاتب المسرحي على سالم إلى اسرائيل قامت القيامة ولم تقعد، وعندما ذهب دكتور زويل فكأن شيئا لم يكن. ) .. 
هذه هى مواقف كاتبنا ورؤاه تجاه الأحداث والإعلام وبعض الشخصيات الإعلامية .. ليست مواقف تتعلق بالشخوص بقدر ما تتعلق بالكيان الذى يقف خلفها أو المواقف المنتجة لها .
وربما أعود لورقة مهمة جدا فى كتابه الثاني من السيرة الذاتية " م الدار للنار " ورقة معنونة بـ " المطاردة تلاحق أسرتي " كم هى مؤلمة ص176.
ولنختم بهاتين الفقرتين البديعين أحدهما تعبر عن الألم الناتج عن الحرب فى " بنت الجنرال " فيقول : (سرنا وسط غابة من النخيل، محترقة رءوسها، وأحياناً يمتد الحريق حتى منتصف الجذع،وقد انسكبت على حوافها دموع سوداء. 
هل بفعل قنابل حارقة من قصف جوي.. أو من قذائف مدفعية.. وتتوالى الجذوع تندب الريح على أرضيتها التى اصفرت حشائشها، وتشغل مساحات شاسعة وحتى البصرة.. تلاشت الثرثرة داخل الباص. وتبلدت نظراتي هرباً من ملاقاة جذوع تيتمت. ) 
أما اللوحة الثانية فهى لوحة حالمة تدعو لعالم حر يعبر فيه الجميع عن مشاعره ويفعل ما يريد ما دام فى نسقه الاجتماعى الذي يقره المجتمع كما فى " الحب فى مالطة " فيقول : (كان العاشقان، وقد قدرت عمرهما فى أواخر الحلقة الرابعة، يستطيعان السير بالعربة عدة دقائق، ويتبادلان القبلات بعيدا عن العيون، ما شاء لهما الوجد والغرام. وبالتأكيد كانا يستطيعان ذلك بالعربة فى أي مكان على الشاطئ الممتد، أو على الصخور المنحدرة ناحية البحر. 
وقد رأيت عشاقا كثيرين على هذه الصخور لا تكاد تميزهم لولا شعاعات باهتة، من نجوم بعيدة. 
لقد فعلا ما أرادا أمام باب محل عام، يحفل بالداخلين والخارجين، داخله رواد، وأمامه مارة. 
فكما أن الزواج يكتسب شرعيته من الإعلان، فقد مارسا طقوس حبهما أمام الجميع لإكساب حبهما شرعية،  استرحت لهذا الخاطر.
ابتسمت وقد قفز إلى خاطري ما نردده عند خيبة الأمل : كمن يؤذن فى مالطة  وتمنيت أن نردد عندما يشع الصدق من فعل ما : كمن يحب فى مالطة. ) 
شكرا لأستاذى الكاتب الكبيرفؤاد حجازى أمير رواية الحرب  - لمنحي هذه الفرصة للتحدث عن سيرته الذاتية التى تعد شاهدة على مصر المعاصرة بكل حياد ورقي . متعه الله بالصحة والعافية.  

بقلم محمود الديداموني

إنشر هذا الخبر :

إرسال تعليق