بقلم:
فهمي هويدي
على الهاتف سألنى الصحفى الشاب! ما رأيك فى قرار منح الضبطية القضائية للمواطنين المصريين وألا ترى فيه تمهيدا لتشكيل ميليشيات إسلامية لتصفية المعارضين؟ فوجئت بالسؤال فقلت له: هل اطلعت على القرار وعرفت مضمونه، فكان رده أن ذلك لم يحدث، وإنما هو ينفذ توجيها كلفه به رئيس التحرير طالبه فيه باستطلاع آراء المثقفين بهذا الخصوص. حينئذ قلت إنه لا يوجد قرار أصلا وانما نحن بصدد بيان صادر عن مكتب النائب العام. ثم إنه ليس صحيحا أن المواطنين أعطوا سلطة الضبطية القضائية. سكت صاحبنا لحظة ولم يرد، فأضفت أن الضبطية القضائية تخول للجهة المعنية حق تفتيش الشخص أو احتجازه لحين تسليمه إلى النيابة، ولا يستطيع وزير العدل أن يمنحها لأى أحد، ولكن ذلك مشروط بأمرين، أحدهما أن يوكل ذلك إلى هيئة حكومية عامة وليس للأفراد، ثم أن يكون تمتعها بسلطة الضبطية مما يقتضيه أداؤها لواجبها كما هو الحاصل فى حالة الشرطة والجيش ورجال الجمارك.
لما طال سكوت صاحبنا شرحت له مضمون البيان الذى لم يقرأه وكيف أنه حث مأمورى الضبط القضائى على القيام بما عليهم إزاء مثيرى الشغب والذين يمارسون التخريب، كما أنه نبه المواطنين إلى ممارسة حقهم الذى كفله لهم قانون الإجراءات الجنائية إذا ما وجدوا شخصا متلبسا بارتكاب جريمة، ودعاهم إلى تسليمه إلى الشرطة فيما تطلق عليه الصياغة القانونية مصطلح «الاستيقاف». وحين أنهيت كلامى سمعت الصحفى الشاب وهو يقول بصوت خفيض كأنه غير مصدق لما قلت: هل تقصد أنه لا يوجد قرار ولا توجد ضبطية قضائية؟ وعندما رددت بالإيجاب اعتذر عن إزعاجى ثم وضع سماعة الهاتف فى هدوء.
لم تكن هذه هى المرة الأولى التى أتلقى فيها اتصالا من صحفى شاب لم يقرأ موضوعه، ولكنه اعتمد على تلقين من رئيسه. كما انها لم تكن المرة الأولى التى أتلقى فيها ذلك النوع من الأسئلة المغلوطة والتحريضية، ذلك أن السؤال انطلق من صحة الادعاء بأن هناك قرارا من شأنه فتح الباب لتأسيس ميليشات إسلامية. وهى الصياغة التى تضع من يوجه اليه السؤال على الأرضية الغلط منذ اللحظة الأولى. ولم يكن ذلك كل شىء، لأن ما أثار دهشتى أن ما تحدث به صاحبنا فى اتصاله الهاتفى معى فى السابعة مساء الاثنين، وجدته الموضوع الأساسى للحوارات التليفزيونية التى جرت بعد ذلك بساعتين فى أغلب القنوات، إذ دارت تلك الحوارات حول النقطتين اللتين أثارهما سؤال الصحفى الشاب، صدور قرار منح سلطة الضبطية القضائية للمواطنين، ثم الميليشيات الإسلامية التى ستتشكل بناء عليه، ولم تتوقف دهشتى حين طالعت أغلب الصحف «المستقلة» التى صدرت فى اليوم التالى (صباح أمس الثلاثاء 12/3)، حتى بدا وكأن لوثة أصابت الجميع. إذ حشدت الصحف أعدادا من القانونيين والحقوقيين والمعارضين السياسيين وأقحمت إحدى الصحف عددا من خبراء علم النفس والاجتماع، واشترك الجميع فى الصياح والنواح وهم ينددون بحكاية الضبطية القضائية ويروعون الناس من المصير الأسود الذى سيحل بالبلاد فى ظل اجتياح الميليشيات الإسلامية المرتقبة.
حين وضعت تلك المشاهد جنبا إلى جنب، تداعى أمامى سيل من الأسئلة منها ما يلى: هل يمكن أن تكون تلك مجرد مصادفة، أن يشوه بيان مكتب النائب العام ويعاد تركيبه بذات المواصفات بسرعة مدهشة لإثارة أكبر قدر من السخط والنفور؟ وهل يمكن أن يكون الاتفاق منعقدا بتلك الدرجة بين تعليمات رؤساء التحرير وبين بعض المثقفين والخبراء وبين مقدمى البرامج التليفزيونية وضيوفها؟ واذا كان اتفاق هؤلاء على قلب الصورة وتسميم الأجواء قد انكشف بسرعة هذه المرة، فما هى يا ترى المرات الأخرى التى تم فيها التواطؤ المماثل ولم ينكشف أمره فى حينه؟
إننا إذا طالعنا الصورة من منظور أوسع سنلاحظ أن الأبواق التى شاركت فى عملية التسميم الأخيرة هى ذاتها التى احتفت بإضراب بعض رجال الشرطة عن أعمالهم، وهى التى شجعت جماعات الألتراس والبلاك بلوك واعتبرت عمليات التخريب وحصار البورصة والبنك المركزى والهجوم على مقر الاتحادية أعمالا ثورية، وهى ذاتها التى ما برحت تستفز الجيش وتستدعيه للانقلاب على السلطة، وقد قرأنا لبعضهم أمس توقعات وردية لما يمكن أن يحدث فى مصر بعد وقوع ذلك الانقلاب السعيد. وهى خلفية تفسر لنا لماذا فزعت تلك المنابر من احتمال استنفار المجتمع ودعوة ناسه إلى التخلى عن السلبية وتسليم المتلبسين بارتكاب الجرائم إلى مأمورى الضبط القضائى، كما يحدث فى اى مجتمع حى ومتحضر.
لا تسألنى من يكون هؤلاء، لأن الأسماء معلنة والوجوه مرئية والأصوات تملأ الأفق وتصم الآذان، ولا تسألنى أيضا لحساب من يعملون، لأننى لا أشك فى أنك تعرف ما الذى يمكن أن يحدث فى البلد اذا تحقق لهم ولمن هم وراءهم ما يريدون.
" الشروق"
إرسال تعليق