Home » » إبراهيم غانم يكتب: (الحياة بأتنين جنيه) ـ الحلقة الأولى: (الضابط)

إبراهيم غانم يكتب: (الحياة بأتنين جنيه) ـ الحلقة الأولى: (الضابط)

رئيس التحرير : Unknown on الاثنين، 23 سبتمبر 2013 | 6:20 ص


يسير الأستاذ علاء متكئاً على عصاه عائداً إلى منزله بعد قضاء متطلباته حاملاً إياها في حقيبة باليد الأخرى.. يصعد سلم منزله الكائن بأحد أحياء القاهرة و الذي يسكن به أبناء الطبقة المتوسطة من المجتمع. أثناء صعوده قابله شريف الطالب بالصف الثاني الثانوي و الذي توفي والده قبل عامين.. طلب الأستاذ علاء مساعدة شريف بأن يحمل الأخير الحقيبة حتى يستطيع الإستناد لسور السلم، و العصا و يصعد لمسكنه إلا أن شريف لم يُعره إهتماماً و قفز درجات السلم نزولاً بلا مبالاة... وقف الأستاذ علاء و بعينه نظرة ألم ممتزجة بالتعجب على الحال الذي وصل إليه مجتمعنا خاصة الشباب من سلوكيات. صعد الأستاذ علاء السلم مع أخذ قسط من الراحة بين الحين و الحين على الرغم من أنه يقطن بالطابق الأول بعد الأرضي. وصل علاء إلى شقته و وضع الحقيبة أرضاً و أخرج مفتاح شقته، و شرع في فتح الباب. في هذه الأثناء فًُتح باب الشقة المقابلة و التي تسكن بها السيدة هناء ذات الثانية و أربعون ربيعاً. السيدة هناء هي والدة شريف طالب الثانوي الذي كنا بصدد الحديث عنه قبل قليل... ألقى علاء تحية الصباح على هناء دار حوار ينهم شمل السؤال و الأحوال و كان نصيب الأسد من هذا الحوار عن شريف إبن السيدة هناء... شريف طالب الصف الثاني الثانوي شأنه شأن معظم شباب جيله.. لا يبالي بأي شيء. يهتم بمتطلباته فقط و التي لا تنتهي أبداً.. فهو يطلب كل شىء و أي شىء و أذا رُفض له طلب منهم كانت الطامة الكبرى. أُمه مغلوبة على أمرها معللة ذلك بأنه فقد والده في سن مبكرة، و ترى من وجهة نظرها مراعاة البعد النفسي و المعنوي له بغض النظر عن الآثار السلبية التي قد تنجم على ذلك. ناهيك عن عبثه و بذل قصارى جهده في إضاعة الوقت في أشياء قد لا تفيد... بمعنى إدعاء ذهابه للدرس الخصوصي و يذهب للعب البلاي إستشن مع أصحابه الذين يتسربون من دروسهم أيضاً و قضاء الوقت على المقاهي و ما إلى ذلك من عبث الشباب.. أما عن أحاديثهم فهي أحاديث مستهلكة معظمها يدور حول عدد الفتيات التي عرفها كل شاب منهم.. عن الكليبات التي تُبث على الفضائيات. حديث عن الأغاني الهابطة التي تلوث مسامع البشر في كل مكان ليل نهار... حديث عن ألبومات أشباه المطربين الذين ملئوا الساحة... إلخ... أنه جيل ضائع... ما هذا بحق السماء؟!!! توالت الأيام و إنتهى العام الدراسي و ظهرت نتيجة الثانوية العامة و جاءت نتيجة شريف مخيبة للآمال فقد حصل على مجموع نسبته المئوية خمس و ثمانون بالمائة.. هذا المجموع جعل فرصة شريف في الحصول على مقعد بأحد كليات القمة ضرب من المستحيل.. حتى و إن بات يستذكر دروسه ليل نهار طوال العام ..... ضاع مستقبل الشاب... وااااا أسفااااااه.... كانت هذه بمثابة الصدمة لشريف و التي أفاقته من غيبوبته و لكن يبدو أن الوقت قد تأخر بعض الشىء.... ظل شريف حبيس غرفته في حالة معنوية سيئة للغاية... و كانت تلك هي الظروف التي أتاحت الفرصة، و فتحت الباب على مصرعيها أمام علاء للدخول في حياة شريف.... و لما لا؟

كلاهما يحتاج الأخر.. نعم.. علاء وحيداً بلا هدف.. موظف بالمعاش لا يجد ما يشغله. شريف شاب فاقد الأب .. ضائع ... ضحية التغير المجتمعي الغريب و الذي أعطب العادات و التقاليد و السلوكيات التي عرفناها.. و الضياع الذي ينقض بمخالبه على الشباب و التبلد الذي يسري بينهم كالنار في الهشيم.. قرع علاء باب شقة هناء و ألقى عليها تحية المساء و طلب شريف و أصطحبه إلى شقته.. جلس يتحدث معه بهدف إخراج الشاب من عزلته و إعادة صياغة طريق حياته العملية التي لم تبدأ بعد.... تعددت المقابلات بينهم و أصبحت شبه يومية و أحياناً كانت أكثر من لقاء في اليوم الواحد.. أصبح كل منهم لا يستطيع الإستغناء عن الأخر... تغيرت سلوكيات شريف شيئاً فشيئاً، و أقلع شريف عن معظم تصرفاته السلبية و بدأ السير في طريق صحيح قويم.. أصبح شغل شريف الشاغل التخطيط لمستقبله بجدية يساعده في ذلك بصورة كبيرة جداً علاء. أصبحت العلاقة بينهما علاقة أب صديق لإبنه ، و إبن صديق لأبيه.... أصبح شريف ينادي علاء بلقب كاد أن ينساه (بابا) هذا اللقب أعاد الحياة إلى قلب علاء.... سأل علاء شريف عن هدفه فأجاب شريف أنه لا يوجد هدف واضح و محدد... و كان الحوار التالي بينهما:- علاء: إيه هدفك اللي عاوز تحققه... شريف: أدخل كلية حلوة تضمن لي وظيفة محترمة.. علاء: بص يا شريف... مهم إنك تحلم و بعدين تحدد الهدف و تشتغل تأدي واجبك على أكمل وجه و بعدين تلاقي نفسك حققت الهدف... أوعى تخلي عينك ع الحلم أو الهدف و بس.. شريف: طيب أدخل أي كلية؟ الكليات اللي تحقق دا خلاص مبقتش ليَ.. و الجامعات الخاصة معندناش تمنها... و بعدين أعمل إيه؟ علاء: ممكن الكليات العسكرية... شريف: عايزة واسطة يا بابا ، و بعدين تتحقق إزاي... علاء: أبداً... إسعى للهدف و إعمل اللي عليك... شريف: يعني أعمل إيه؟ علاء: الأول تذاكر و تنجح و تنظم وقتك و تتدرب عشان تحسن اللياقة البدنية، و تحافظ على صحتك و تقدم للكلية و تجتاز الإختبارات تلاقي نفسك حققت الهدف... ح أساعدك.. و ح نبدأ من دلوقتي.... وضع علاء برنامج دقيق لتحقيق هذا الهدق و أصبح يتابع شريف في إستذكار دروسه ، و أخرج من دولابه سوستة تحتاج لإصلاح و سأل شريف.. "معاك إتنين جنيه؟!" فأجاب شريف: "أيوه يا بابا"... قال علاء.. "روح صلح السوستة دي عشان نبتدي".... بدأ علاء في تنفيذ برنامج رياضي بتمرينات سويدي مستخدماً السوستة التي تم إصلاحها و حديد زنة الواحدة إثنين كيلو غراماً ... أشرف على تدريب شريف درجة درجة و كل يوم يزيد التمرينات.. مرة أخرى سأل شريف: عندك إتنين جنيه يا شريف؟ قال شريف: جنيه و نص باقي م المصروف. إستكمل علاء الأثنين جنيهاً و ذهب بشريف لمستشفى حكومي تابع لوزارة الصحة و إشترى تذكرتين و احدة لكشف الباطنة و الثانية لكشف الأسنان ليطمئن على لياقة شريف الصحية. في اليوم التالي قال له إتنين جنيه سلف تسددهم من مصروفك و ذهب به للمستشفى الحكومي لفحص العظام و النظر.. وضع علاء برنامج غذائي مثالي لشريف و إلتزم به شريف و كل يوم جمعة في الصباح يذهب علاء و شريف في أحد الحدائق العامة و معه قائمة بالإختبارات الرياضية التي سيمر بها شريف و أخذ يدربه عليها و يعودان للمنزل قبل صلاة الجمعة بوقت قصير لتغيير الملابس و الإغتسال و الذهاب للصلاة بالمسجد. مرت الأيام و ظهرت نتيجة الثانوية العامة و نجح شريف بمجموع يقارب مجموع المرحلة الأولى من الثانوية العامة سحب أوراق التقدم للكلية الحربية و قام علاء بمساعدة شريف في ملىء البيانات و أثناء كتابة البيانات سأل شريف.. "ليه الإستمارة اللي كلها عن القرايب دي؟" فرد علاء: "عشان الصلاحية الأمنية" فإستفسر شريف: "يعني إيه؟" قال علاء "التحريات يعني... دي لازم".... إستكمل شريف الأوراق و أرفق المستندات المطلوبة و قدمها و تم تحديد موعد توقيع الكشف الطبي.ظهرت نتيجة الكشف بأن شريف لائق طبياً و تم تحديد موعد إختبارات اللياقة البدنية و التي إجتازها شريف بنجاح و بمنهى السهولة..

في اليوم المحدد لكشف الهيئة إستيقظ شريف و ذهب إلى علاء فوجده قد إستيقظ من فجر ذلك اليوم ، و تبدوا عليه مظاهر الإضطراب و سأله: "إنت مالك يا بابا؟" فرد علاء: "كأني أنا اللي ح أروح كشف الهيئة.. و ريني كده؟"

لأ يا شريف غير الطقم دا.. انا عايزك تلبس هدوم مكوية حلو و تلمع الجزمة. و إحلق ذقنك و سرح شعرك حلو.. عايزك عريس.... رجع شريف لشقته و نفذ ما قاله له علاء و عاد إليه ثانية و قال علاء: إش إش .... حلو قوي كده مش ناقص إلا إنك تسمع اللي ح أقولهولك.. تقف ثابت إنتباه زي كده و ترد على أسئلة اللجنة بثقة و متخافش... صوتك ما يبقاش واطي و ميكونش مزعج..... و إقراء قبل ما تخش اللجنة الفاتحة و ربنا ح يفتح عليك.. نفذ شريف ما قاله علاء بالحرف الواحد... بعد أيام ذهب علاء و شريف مقر الكلية حيث أُعلنت نتيجة القبول بالكلية و جاء إسم شريف ضمن قوائم المقبولين بالكلية و تهلل الأثنين فرحاً و تعانقا.... تم تجهيز متطلبات الكلية و سلم شريف نفسه للكلية..... و أصبح طالباً بالكلية الحربية...ما أروع النجاح... غاب شريف عن منزل أمه خمس و أربعون يوماً كاملة و للمرة الأولى في حياته يبيت خارج المنزل و لم تتحمل الأُم هذا و أخذت تعاتب الأستاذ علاء و تقول له.. وديت إبني فين؟ أنا عايزة إبني فيرد علاء.. إبنك ح يبقى راجل بمعنى الكلمة... ح تعرفي قيمة اللي بأقولهوليك قريب... يوم الثلاثاء و في تمام الساعة الواحدة ظهراً و كان قد إنقضى خمس و أربعون يوماً على غياب شريف. قامت هناء لتفتح باب الشقة حيث هناك من يقرع جرس الباب.. و فتحت الباب .. برقت عيناها ..صمتت متوجمةً..فمن الواقف أمامها؟.... شاب ممشوق القوام في زييه العسكري الأنيق...... بجانبه الأستاذ علاء... صرخت هناء متهللة و عيناه تدمعان و عانقت إبنها قائلة.. إبني بقى راجل.... و أجهشت بالبكاء الممتزج بالضحك... مرت سنوات الكلية و شريف تتحسن هيئته و مظهره تغير كلياً و جزئياً. أصبح مثالاً لشاب يتمنى أي شاب أن يكون مكانه، و يتمنى أي أب و أم أن يكون إبنهما مثله.... أثناء سنوات الكلية الثلاث كانت هناك تعليقات لعلاء جعلت شريف يتسأل من أين للأستاذ علاء معرفة أشياء و تفصيلات كثيرة تجرى بالكلية لا يعرفها سوى من هم بداخل الكلية؟ سواء كانوا طلبة أو مُعلمين أو ضباط أو مدرسين بها؟!! ذات مرة سأل شريف علاء قائلاً: إنت يا بابا بتعرف الحاجات دي إزاي؟ فرد علاء: أصلي و أنا صغير كان نفسي أخش الكلية دي و ما دخلتهاش ، و كان صحابي اللي دخلوا بيحكوا لي لما بييجوا خميس و جمعة.. بات على موعد التخرج أسبوعين تقريباً و في أجازة شريف التي تعد أخر أجازة له و هو طالب بالكلية قال شريف محدثاً أمه و الأستاذ علاء: " الخميس الجاي مفيش بقى عشان إحنا بنستعد لحفلة التخرج.. إنسحب علاء من مجلسهم و غاب قليل من الوقت و عاد معه علبة مغلفة كهدية و سأل شريف قائلاً "ما قالوش ليك على حاجة ف الكلية نسيت تجيبها؟ رد شريف: زي إيه؟ قال علاء: زي دي... و قدم الهدية لشريف... فتح شريف الهدية و وجدها نظارة ريبان أصلية ثمنها لا يقل عن أربعمائة جنيهاً.. و ساعة يد ماركة رادو، و تعجب شريف و قال: "فعلاً يا بابا قالوا لنا ع النظارة و الساعة.. إنت عرفت إزاي رد علاء: إنت ليه ديماً بتنسى: مش قلت لك إني و أنا صغير كان نفسي أخش الكلية دي، و ما دخلتهاش ، و كان صحابي اللي دخلوا بيحكوا لي لما بييجوا خميس و جمعة! فاضل ع الحلو دقة... مبروك يا أبني..... على فكرة أنا نفسي أجيب لك الدنيا كلها بس مقدرتي المالية ما كانتش أكتر من كده.. رد شريف: القيم المعنوية أهم بكتير قوي م القيم المادية. ربنا يخليك ليا يا بابا جاء يوم حفل التخرج غاب عن الحفل علاء و الذي من المفترض حضور أولياء أمور الطلبة هذا الحفل.. بعد نهاية الحفل خرج شريف و أصبح ملازم تحت الإختبار بالقوات المسلحة بزييه الرسمي تعلو أكتافه نجمة ذات بريق تنتظر باقي أخواتها بمضي حياته العسكرية... خرج فوجد الأستاذ علاء بإنتظاره على باب الكلية.. عانقه و سأله: إنت ما جتش الحفلة ليه يا بابا؟ في هذه الأثناء تصادف خروج صف ضابط بالكلية بدرجة مساعد (صول) وقف أمام علاء إنتباه و بكامل الإنضباط العسكري أدى التحية العسكرية لعلاء و دون أن يشعر الأستاذ علاء و بتلقائية شديدة رد التحية العسكرية.. قال المساعد لعلاء: إزييك يا سيادة العميد! وحشتنا يا بيه.. فاكرني.. أنا الباش شاويش حسان الدمنهوري.. أنا خدمت مع سيادتك زمان ف المدفعية أيام ما كُنت سيادتك نقيب ، و كنت أنا لسة أومباشي. و بعدين جيت الكلية و أنا شاويش و كنت إنت وقتها عقيد قبل الحادثة بتاعة سيادتك...... فين أراضيك يا بيه؟؟؟ رد عليه علاء: إزيك يا حسان و إزي ولادك.. رد قائلاً بيبوسوا إيدين سيادتك.. بركة إني إطمنت عليك.. سلامُ عليكوا.... قال شريف لعلاء: أنا كُنت حاسس بس مكُنتش عارف أتأكد: إنت مين يا بابا؟! رد علاء: أنا العميد أركان حرب محمد عبد السلام..... ممكن نقعد يا حضرة الضابط في مكان هادي نتكلم.. ذهب الإثنان لكافيتريا مجاورة للكلية و جلسا بحديقة الكافيتريا.. قال شريف إحكي لي يا بابا قصدي يا سيادة العميد... بدأ العميد محمد عصفور في سرد قصته و قال: أنا زي ما عرفت كُنت ضابط ف الجيش.. كنت عايش حياتي و كانت حلوة قوي.. ربنا إداني حاجات كتير حلوة بس لازم تكون فيه حاجة ناقصة.. حكمته كده.. لازم البني أدم يرضى.. كانت مشكلتي إن خلفتي بنات بس... و كان نفسي يبفى عندي ولد.. قلت أتجوز على مراتي. مراتي عرفت و ما عجبهاش. رفعت عليا قضية خُلع و كسبتها.. حتى البنات حرمتني أشوفهم. كُنت في مشروع بالذخيرة الحية، و خيالي سارح في المشكلة و دي غلطة عايز أعلمك ما تغلطهاش... لما تروح شُغلك إنسى البيت و لما ترجع البيت إنسى شُعلك.. إفصل يعني.. المهم و أنا سارح حصلت الإصابة.. قدروا لي نسبة عجز طبي و طلعت معاش. مبقاليش حد... جيت و سكنت جنبكوا و عشت بينكوا زي ما شفت.. إتعودت على حياتي الجديدة... رد شريف... بابا .. إنت دايماً فيه سؤال الناس بتسأله و محدش بيجاوب عليه.. دلوقتي بس عرفت إجابته.. و الؤال "اللي خلف و لا اللي ربى؟!" "بالنسبة لي الإتنين.. أبويا اللي خلفني سبب وجودي ف الحياة و إنت اللي ربتني سبب إستمراري ف الحياة.. فيه حاجة كمان عايز أقولها لك... إنت كلمتني كتير عن الهدف و الحلم و أنا عايز أسألك يا بابا إيه حلمك أو هدفك في الحياة.. رد العميد محمد: حلمي خلاص حققته فيك.. ربنا بعت لي الولد و شفته ضابط... إنت بقى حلمك إيه؟ حلمي أكون إنسان... و ضابط عظيم زيك... يقف شريف إنتباه و يؤدي التحية العسكرية لأبيه علاء (العميد أركان حرب محمد عبد السلام) و يرد علاء التحية لشريف
... تمت......

إبراهيم غانم 

إنشر هذا الخبر :

إرسال تعليق