بقلم: د.محمد الدمرداش
الوالي التركي يتخبط .. بين حنين العودة إلى التراث، واستدعاء للأساطير، وركونا إلى أحلام اليقظة. ينتاب اردوجان منذ عامين حالة «نستولوجيا» أو حنين إلى الماضي، والتوق لعودة الخلافة العثمانية .. يتلهف ليترقي من رتبة الوالي ليجلس علي مسند السلطان العثماني .. عودة الخلافة من البلد التي أجهز عليها فيها بفعل أتاتورك وبهزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
الكثير يري في حلم اردوجان وحزبه إفلاس في الحاضر، ويأسُ من المستقبل، دفع شريحة من الأتراك للدعوة لإحياء الخلافة الإسلامية، التي يرون فيها منجاة لهم، بعد أن تاهت هويتهم بين تغريب استمر عقود طويلة ، ورفض أوروبي لمطالب حثيثة بالانضمام للإتحاد الأوروبي ، أنتج هذا فقد للقدرة على الانتماء إلى أوطانهم التي يعبر عنها في القانون الحديث بكلمة «الدولة»، مما جعل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان مرشحهم المثالي لاستعادة الماضي وإحياء حلم الخلافة لتولي كرسي الخلافة. استطاع أردوجان أن يسوق نفسه للأتراك علي انه أملهم المعقود، وانه يملك القدرة على توحيد «الأمة» الإسلامية لتكون قطبا سياسيا واقتصاديا تحت قيادة الباب العالي باسطنبول، مقابل القطبين الإيراني والإسرائيلي. هذه الأمنية الواعدة تصاعدت بعد أن بلغ الإخوان المسلمون في مصر مبلغ الحكم، وتحالفت معه حركة حماس وغيرها. هذا التحالف كان بادرة لمشروع أممي جديد بمباركة الحالمين بطربوش الخلافة العثماني في الخليج واليمن والشام وشمال أفريقيا.
وحيث إن الحديث عن ذكريات الماضي، فعلينا أن ننصف أنفسنا حتى ينصفنا العالم ، ونأتي بالتاريخ بوجهه الحقيقي بدون رتوش زائفة ، لا وجهه المخضب بالألوان الزاهية.
ماذا فعلت دولة الخلافة العثمانية بالمسلمين العرب تحت حكمها ؟
خلال الثلثين الأخيرين من فترة الخلافة العثمانية، استمات الباب العالي، للاستيلاء على النصف الجنوبي من العراق، الذي كانت تسكنه عشائر المنتفق و المظفر وغيرهما لقرون مضت. وقاومت هذه القبائل ببسالة غزو الفرس والأتراك العثمانيين ثم الإنجليز لاحقا، وكانت مفخرة عربية بمعنى الكلمة لاتحاد عروبي عشائري لم ينحنِ ولم يستسلم. ولم يتفكك هذا الاتحاد ويتهاوَ إلا بعد أن مارس العثمانيون الذين كانوا يحكمون بغداد والنصف الشمالي من العراق سياستهم البغيضة «فرق تسد» ، وبالنهاية، بدأ الأتراك باستقطاع مناطق من العشائر العربية، وضموها للأمر العثماني حتى دانت لهم الإمارة، ثم انهارت في الحرب العالمية الأولى، بعد قتال ضارٍ مع البريطانيين استمر أربع سنوات.
أما في سوريا ولبنان، فانطلقت «الثورة العربية» من الحجاز ضد العثمانيين، إثر المجازر التي ارتكبها الوالي الدموي جمال باشا، وكان من اكبر القواد الأتراك ولقب بالسفاح، وتنفيذه لسياسة التجويع والتعذيب والتهجير القسري، حتى أصبح القمع التركي للعرب في بلاد الشام درسا لمن أراد اكتساب فنون التعذيب الوحشية. وإن كانت تركيا وقتها مليئة بالمساجد التي يذكر فيها اسم الله ، ويرفع فيها الدعاء بإسم الخليفة المؤمن ، كانت هناك في بيروت ودمشق ساحات أطلق عليها اسم ساحات «الشهداء» بسبب سياسة هذا الخليفة الورع وبسبب المجازر العثمانية للشباب العربي والمفكرين والمثقفين العرب. ولذا فباليقين أن عدد أبنية المساجد لا يشير بالضرورة إلى تقوى أهلها، وإلا لشفعت الألف من المآذن في الجزائر للأبرياء الذين قتلتهم الجماعات الإسلامية بوحشية، قبل 20 عاما.
هذه اطلالة سريعاً موجزه وعلى عجل لبعض جرائم الأتراك ضد العرب، ليس في السنوات الأخيرة من حكم العثمانيين، كما يدعي المنافحون عن أمر الخلافة، بل في معظم فترات حكمهم.
أما بالحديث عن الحاضر، فلا بد من التذكير بأن الدولة التركية المعاصرة التي تبطن تحت الطربوش العصري عمامة الخليفة العثمانى ، بقيادة إردوغان، حققت انفتاحا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، بهدف استرضاء الأوروبيين لإقناعهم بأن تركيا الواقفة على بابهم جديرة بالانضمام للاتحاد الأوروبي، الذي منحها في 2005 الموافقة على أن تكون مرشحة للانضمام للاتحاد ( لاحظ مجرد مرشحة ).
إنما الأوروبيون لم يكونوا مرحبين حقا بالفكرة، لم يكونوا على ثقة بأنهم أمام صفحة بيضاء، مما دفع اليأس في نفس أردوجان، وزاد انزعاجه، خاصة بعد تداعيات سقوط نظام صدام حسين وتمدد الإيرانيين في العراق وتزايد نفوذهم في لبنان وغزة وسوريا.
بعد الحراك الشعبي الذي طال بعض البلدان العربية في 2011. سنحت الفرصة لجماعة الإخوان المسلمين التي ينتمى لها أردوجان لأن تقفز إلى كرسي الحكم في مصر، فثارت شهية نظرائهم في تركيا إلى التوسع سياسيا تجاه الجنوب بتكوين حلف إخواني في مصر وغزة والخليج، ليكون قوة ضاربة تكافئ القوى الإقليمية الإيرانية والإسرائيلية، فاعتمر الطربوش، وفك الحظر عن الحجاب، وفرضت قوانين تنظم بيع (وليس منع) الخمور، أسوة بالغرب الذي يحظر بيع الخمر لمن هم دون 18 عاما، وعبد ذلك جرى بناء مسجد ضخم في ساحة عامة.
حلم الخلافة لم يكن الا محاولة للبحث عن هوية للدولة التركية بديلا للاتحاد الأوروبي الرافض لإنضمام تركيا .. حقيقة تبدد الحلم سريعاً وسقط خلال عام واحد، استفاق أركان الحلف منه بعد انهيار حكم الإخوان المسلمين في مصر. ومن سوء الطالع أن أردوجان واجه فضائح بالفساد طالته ودائرته الضيقة، لم يسعه بعدها سوى أن يستدير على قيم الحريات التي كان يدعيها أمام الأوروبيين، فوسع صلاحية الاستخبارات، وضيَّق على القضاة، وأغلق وسائل التواصل الاجتماعي أثناء الانتخابات البلدية حتى لا تتوسع دائرة الاحتجاجات عليه.
استعاد أردوجان سريعا وجهه الحقيقي .. ظهر جلياً في تصرفاته سلوك الخليفة العثماني، كما يقول لنا التاريخ. في نفس الوقت شعر الأوربيون بأنهم حكماء، كونهم لم يمنحوا رجل أوروبا المريض العضوية، تنفسوا بعمق وهم يقولون: حقا، إن في العجلة الندامة.
على المسلمين العرب الذين يلوكون حديث الخلافة أن يقرأوا التاريخ والحاضر جيدا، التاريخ يقول إن العثمانيين دوماً كانوا خصوما للعرب، وإن قوميتهم، لا ديانتهم، هي التي كانت تحكم عقليتهم وأحلامهم التوسعية في المنطقة العربية . أما الحاضر، فإردوجان تحدث لحلفائه بصراحة؛ توجه إلى القاهرة حينما فاز الإخوان المسلمون بالانتخابات، وأوصاهم بصريح العبارة بأن ينتهجوا منهج العلمانية ليفلحوا، نصحهم بأن يكونوا مثله، ويتركوا للناس مساحة واسعة في حرياتهم الشخصية، وبأن ينفتحوا على الفن وأهله، ويوطدوا علاقتهم بإسرائيل، كما تفعل تركيا التي تربطها بإسرائيل علاقة ود يتخللها أحيانا عتب الأحبة، ومليارات من التبادلات التجارية وتعاون عسكري ضخم. لكن بالقطع كان الإخوان تلاميذ أغبياء لأردوجان.
إرسال تعليق