Home » » إعادة اكتشاف الثقافة العربية في تَحَوُّلها

إعادة اكتشاف الثقافة العربية في تَحَوُّلها

رئيس التحرير : Unknown on الخميس، 29 مايو 2014 | 9:01 ص



كمال عبد اللطيف

تعني عملية إعادة اكتشاف الثقافة العربية، في أزمنة تَحوُّلها، الانتباه إلى الطبقات التاريخية الجديدة التي ساهمت، وتساهم، في إغناء ثقافتنا وتطورها. تزداد أهمية هذا المسعى، عندما نكون على بينةٍ من أن الثقافة العربية انخرطت، منذ ما يزيد عن قرنين، في عمليات تمثل وتأويل جوانب من المشروع الثقافي المعاصر، في ضوء أسئلة واقعنا في تحوله وتغيره، ما أدى إلى حصول عمليات مثاقفة، ترتب عنها تعميم معارف وقيم وأنماط من الفكر والإبداع، وسَّعت مجالات الثقافة العربية وحدودها.
وإذا كنا نؤمن بأن الثقافة فعل ينشأ في التاريخ، وتعتريه تقلبات الأفعال الحاصلة في التاريخ، فإننا مطالبون بمعاينة تحولاتها القائمة، حتى لا نظل سجناء تصوراتٍ، لا علاقة لها بالتحولات التي تحصل في دائرة الزمان. وضمن هذا السياق، نشير إلى أن المشروع الثقافي الغربي، في مختلف أبعاده وتجلياته، لم يعد يشكل، اليوم، في ثقافتنا خارجاً مطلقاً، ولعله أصبح جزءاً من مكوناتنا الثقافية. كما أن مكاسب المشروع الثقافي الغربي، في المعرفة والتقنية، لم تعد تخصه وحده، بل أصبح لمختلف ثقافات العالم فيها نصيب.
قد يعترض معترض على ما نحن بصدد توضيحه، فيشير إلى أن أشكال الممانعة المتواصلة في الفكر العربي، ضد الغرب ومشروعه في الثقافة والتقنية والقيم، يقدم الدليل على عُسر انخراط الثقافة العربية، في تمثل الفكر المعاصر واستيعابه، إلا أننا نرى أن المعارك الثقافية التي تتواصل، اليوم، في الثقافة العربية، بين المدافعين عن التحديث والمتحصنين بقيم الماضي، وإن كانت تدفعنا إلى الإقرار بعسر تَمثُّل دروس الفكر المعاصر وصعوباته، إلا أنها تضعنا في طريق الانخراط التاريخي اللازم في عملية الاستيعاب والتجاوز، على الرغم من كل أشكال الإقدام والتراجع والمراوحة بينهما. ندرك ذلك جيداً، عندما نقارن بين أدبيات رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي في الإصلاح السياسي، وقد تبلورت في القرن 19، وأدبيات أحمد لطفي السيد في مطلع القرن العشرين، ونقارن بين الأدبيات المذكورة وأدبيات عبد الله العروي وناصيف نصار في النهضة العربية، على سبيل المثال، نتبين صور التحول الحاصلة في ثقافتنا المعاصرة.
تساهم عمليات إدراك صور التحول التي عرفتها الثقافة العربية في الأزمنة الحديثة، في التخلص من استمرار هيمنة تصورات ومبادئ، لم تعد مناسبة لمتطلبات الشروط الجديدة التي تؤطر مظاهر الحياة في مجتمعنا، وتتيح لنا إمكانية المساهمة في بناء الثقافة العربية مجدداً. خصوصاً ونحن نرى أن الدفاع عن قيم الثقافة الحداثية، المتمثلة في قيم النسبية في المعرفة، والإنسانية في التاريخ، والتواصل بين الأفراد والمجتمعات في العالم، لا يعني بالضرورة أننا سنتخلى عن ذاتنا التاريخية، قدر ما يعني أننا نساهم في توسيع روافد التكوين الثقافي المتجدد، وهو الأمر الذي يؤدي إلى إغناء ذاتنا في التاريخ.
وما يجري، اليوم، في دول آسيوية كثيرة، من تقدم علمي ورفاه اقتصادي، يعد أكبر دليل على أن التعلم من الغرب لا يفقد الذوات التاريخية كياناتها الخاصة، قدر ما يعزز حضورها ومكانتها. فلم تعد خطابات الهوية الأقنوم قادرة على منح ذواتنا الروافع المساعدة في عملية البقاء، إنها تفرغ الذات من روحها النازعة نحو التبدل، وتجعلها عاجزةً مُغلقة على ذات بائسة ويائسة.
ففي قلب التيارات الثقافية المناصرة لمفاهيم الهوية والاستمرارية التاريخية، تنشأ أسئلة جديدة، تدعونا لإنجاز تَمَّلكٍ نظري تاريخي جديد لماضينا وتراثنا، فقد ظلت أعباء التاريخ العقائدية جاثمة على عقولنا وضمائرنا، وها هي تعود اليوم في صُور تستدعي مواصلة تشريحها، وتفكيك أنظمتها في النظر بأدوات الثقافة النقدية ومناهجها، ما يساعد في عمليات إعادة بنائها، ويسمح لنا، قبل ذلك، بتحقيق قليل، أو كثيرٍ، من التصالح مع القيم الجديدة في ثقافتنا.
نريد أن نوضح، هنا، أن عملية إبرازنا أهمية المكاسب الثقافية الحداثية في الفكر المعاصر، لا تستبعد، ولا تنفي، أبداً، الإشكالات النظرية والتاريخية الكبرى، التي ولَّدتها هذه المكاسب في مختلف مظاهر الوجود التاريخي للإنسان، فنحن نعي جيدا أن ثقافة الحداثة تواجه إشكالاتها الجديدة، محاولةً إيجاد الحلول المناسبة لها. ولا نعتقد أن هذه المسؤولية الأخيرة موكولة للثقافة الغربية وحدها، بل إنها مهمة كل الثقافات ومسؤوليتها التي انخرطت في أفق التفكير الحداثي المفتوح، أفق الثقافة الكونية التي ننظر إليها مشروعاً تاريخياً مفتوحاً، يهم الإنسانية المنخرطة بالأمس واليوم في مغامرة التاريخ المعاصر، بكثير من الإيمان بالإنسان وبطموحاته في التاريخ.
صحيح أن عمليات التنميط القسري، التي تمارسها آليات الأفعال التاريخية والثقافية المتعولمة في حاضرنا، تتجه لصوغ حالة من الوعي المسطح والمتشابه والمأزوم، إلى أننا لا نريد أن نتعامل مع الظواهر الكبرى، الناشئة في التاريخ، بلغة التخندق السياسي والثقافي، وهي اللغة التي تنتشر في المنتديات السياسية والثقافية، المناهضة للعولمة الاقتصادية. ففي المجال الثقافي، ينبغي بناء التصورات بحذر كثير، وبنظر نقدي كثير، يعلق الأحكام السريعة لمصلحة تعميق النظر، مع عدم إغفال شروط التحول الجارية في العالم ومقتضياته.
  العربي الجديد
إنشر هذا الخبر :

إرسال تعليق