مة أزمة عميقة بين الشرق والغرب من جهة، وبين المسلمين المتطرفين والإسلام المعتدل من جهة أخرى، جعلت المجتمعات العربية والإسلامية تئن تحت وطأة قوى اجتماعية متطرفة وضاغطة مضادة لشيوع الأنسنة تتدثر دائما بدثار الدين
في كلمة "الأنسنة" دلالة تعيد هذا اللفظ إلى أصله المشتق منه "إنسان" و"إنسانية" التي يتميز بها الإنسان عن بقية الكائنات الأخرى، كما تميز بعقله، واستطاع أن يصنع الحضارة ويستجيب لتحدي الطبيعة، بعد أن صنع فرص التصالح والتواصل والتعايش مع أخيه الإنسان ويسعى لها.
ولو عدنا إلى التاريخ، فسنجد إسهامات كثيرة لشعوب وثقافات وملل وأديان كثيرة في الحضارة البشرية، كان الرابط فيها كلها "الاشتغال" بالإنسان لا الانشغال عنه؛ فتحققت الكثير من المنجزات الثقافية الحضارية بعد أن تجاوز الإنسان هذه العقدة، وهي أزمة العلاقة مع الآخر، ولم يكن المسلمون استثناء من هذه القاعدة، فقمة تحضر المسلمين كان في إسهامات العرب وغيرهم من الشعوب الأخرى، التي دخلت الإسلام واستلهمت الثقافة العربية في ذلك الوقت.
ولذلك فإن المشروع المرشح لتحقيق هذا الانفتاح التواصلي الإنساني هو "الأنسنة"، التي يقصد بها: نزعة أو توجه فكري يكون فيه الإنسان أولوية، بمعنى أنه يكون محور الحياة ومحور تطورها بغض النظر عن "الاختلافات" التي يفترض أن تصنع ثراء لا عداء.
أما في ظل ما نعيشه اليوم من سيادة قيم التطرف والغلو والانغلاق التي أسهمت في إعاقة التواصل الإنساني بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي على المستوى الثقافي والاجتماعي منذ عقود، فأصبح المسلمون متهمين بـ"الإرهاب" وإلغاء الإنسان حتى يثبتوا العكس مع الأسف، فنحن عشنا خلال العقد الماضي مرحلة اختبار صعب، ولا نستطيع التكهن بنتيجة هذا الاختبار بالنجاح أو الرسوب؛ لأنه ما زال قائما رغم فترة الهدوء النسبي.
وهنا نجد أن ثمة أزمة عميقة بين الشرق والغرب من جهة، وبين المسلمين المتطرفين والإسلام المعتدل من جهة أخرى، جعلت المجتمعات العربية والإسلامية تئن تحت وطأة قوى اجتماعية متطرفة وضاغطة مضادة لشيوع الأنسنة، وتتدثر دائما بدثار الدين، تلقى أطروحاتها رواجا اجتماعيا بين مختلف فئات المجتمع، بينما هي في الواقع تستخدم خطابا "ديماغوجيا" دينيا للسيطرة على مفاصل المجتمع، وبالتالي القضاء على كل مسارب النور المحتملة للنزعات الإنسانية التي ينادي بها الإنسانيون في العالم، من أجل الانفتاح الحقيقي على الثقافات دون تعصب أو كراهية.
ويشير الباحثون إلى أن موضوع "الأنسنة" ليس بجديد على الثقافة العربية الإسلامية، بفضل جهود مثقفين مسلمين استطاعوا الأخذ بطرفي الخيط، وبالتالي مزج الفلسفة الإغريقية بالثقافة الإسلامية فتكوّن الاتجاه الأنسني، خاصة أنه في فترة ازدهار الحضارة الإسلامية في المشرق والمغرب العربي، كان محركو الثقافة مثقفون يشتغلون بالأدب والفكر والفلسفة، غالبا ما تصفهم المصادر بـ"الأدباء" عُرفوا بانفتاحهم على الثقافات الأخرى باعتبار أن "الأدب" يعتمد على التراكم المعرفي من خلال الاطلاع على العلوم الأخرى والأخذ منها، وعادة ما يحظى هؤلاء بدعم مادي ومعنوي من قبل الأغنياء والأمراء والسياسيين المحبين للثقافة، فتحققت على يد هذه النخب الثقافية النزعة الأنسنية؛ نتيجة الانفتاح على الثقافات الأخرى كالإغريقية والفارسية والهندية.
وبما أن الدولة الإسلامية حينذاك كانت تضم في محيطها الجغرافي والاجتماعي أعراقا متعددة، فإنها أيضا كانت تحوي انتماءات ثقافية مختلفة، مما خلق فرصة لمشاركة العلماء والأدباء والمفكرين المنتمين للأديان الأخرى كالمسيحية واليهودية، وهناك أسماء معروفة في التاريخ الإسلامي مثل: يحيى بن عدي المنطقي، وابن زرعة، وإسحاق الإسرائيلي، وموسى بن ميمون، وغيرهم ممن شارك، كان فاعلا في وسطه الثقافي فتكرست النزعة الإنسانية إلى جانب المثقفين المسلمين مثل التوحيدي والجاحظ ومسكويه وغيرهم، وكذلك إلى جانب أولئك المشتغلين بالفلسفة كالكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم.
ولكن، مع الأسف، لم تستمر تلك التوجهات "الأنسنية"؛ نتيجة ظهور أشكال الجهل والتعصب والعنصرية، وكذلك شيوع ظاهرة احتكار "الحقيقة" الدينية، التي استفاد منها الديني والسياسي على السواء، وكذلك اقتناع كل فرقة دينية بأنها "الناجية" دون أن تعترف بحقوق الفرق الأخرى؛ وهذا ما كرّس صورا كثيرة لإلغاء الإنسان وتهميش قيمته، استمرت منذ ذلك الوقت حتى العصر الحاضر.
الوطن
سعود البلوي
إرسال تعليق