جورج صدقة
كيف نعيد الأمة العربية إلى مسار الحضارة؟ هذا السؤال كان محرك نزار دندش لإصدار كتابه الجديد بعنوان "نحو ثورة في ثقافتنا"(1) محاولاً ان يرسم معالم الطريق للخروج من حالة التخلف التي يتخبط فيها عالمنا العربي واللحاق بركب التقدم.
كم تبدو إشكالية الكتاب ملحّة وآنية وسط ثورات العالم العربي التي مهما كان رأينا فيها فإنها تعبّر عن تطلع الشعوب العربية إلى الخروج من واقع وضعها خارج آليات التقدم والعلم وسجنها في فكر سياسي وديني لا يحمل إلاّ مزيداً من الفقر والمآسي والتخبط. هذه الإشكالية تقدّم تقويماً واقتراحات للحركات التغييرية، ولا سيما الدينية منها، التي يعبق بها العالم العربي اليوم، والتي تعد الشعوب العربية بمسارات تقدَّمها بديلاً من الأنظمة القائمة. وكأن المؤلف أراد أن يرسم للحراك العربي الطريق الصحيح انطلاقاً من التجارب البشرية التي أدّت إلى تطور الإنسان، ومنها التجربة العربية الاسلامية التي استطاعت في مرحلة تاريخية معيّنة أن تضطلع بدور محوري في تطور البشرية.
بدأ المؤلف كتابه في الفصول الأولى بدراسة تاريخية سوسيولوجية بأسلوب شرح مبسط، وهو الأستاذ في الجامعة اللبنانية، عرض فيها مراحل تطور الانسان وارتقائه دون غيره من المخلوقات. فعرض تطور العلوم من اختراع الدولاب عند السومريين الى علوم الفلك عند البابليين مروراً بالحضارات المتعددة ومساهماتها المشتركة في تغيير واقع الانسان وفكره.
هذا التطور ولا سيما في ميدان العلوم هو وليد العقل، "فالعقل الانساني هو جوهر الحضارة". ويستشهد بفؤاد السعيد الذي يعتبر أن "الحضارة الاسلامية نفسها قامت على العقل". هذا الاتجاه العلمي باعطاء العقل الأولوية لا يعني اسقاط الدين، بل "أن فهمنا للأديان والتسلح بثقافة دينية صحيحة يوفّر سلاحاً ثقافياً ضرورياً للانسان... لكن فهم التعاليم الدينية يتطلب مواكبة كل الاكتشافات العلمية، إضافة إلى الفهم المعمق للنص الديني".
ويستشهد المؤلف بصور من القرآن الكريم ليؤكد "أن الاسلام كرّم العقل وشجّع على طلب العلم وعلى استعمال العقل والتفكير وخصصه بأكثر من سبعمائة آية". وهذا ما يقوده الى السؤال: "كيف حدث الانهيار الحضاري، ومن ثم التخلف الثقافي والمعرفي" في عالمنا العربي؟
يستعرض المؤلف مراحل التاريخ العربي الاسلامي، محاولاً الاضاءة على المحطات المنيرة فيه، ومفنّداً ما يراه السبب في التخلف من عوامل اجتماعية وفكرية ودينية وسياسية: "هناك سيطرة للقديم على الجديد، فالموروث هو الصحيح ولو كان ضاراً... أدى هذا التناقض العقيم الى فوضى في اصدار الفتاوى وفوضى في طقوس الطاعة والتقليد... الثقافة العربية تائهة والعرب في غربة عن ثقافتهم، عن حضارتهم، وعن الآخر".
يصل دندش الى اقتراح حلول: "لا خروج لنا من مستنقع التخلف إلاّ على سفينة العلم، وما دامت مشاريعنا النهضوية تستبعد دور العلم والعلماء فلسوف نبقى على تخلفنا. وعبثاً نقنع أنفسنا بأننا نشجع العلم، ولئن اعلنا ذلك فلأسباب دعائية فقط". ويؤكد ضرورة السير بركب الحضارة العالمية، مناقضاً وان بشكل مضمر، الكثير من الطروحات السائدة في ثورات العالم العربي: "لا تقدم ولا ارتقاء من دون العلم والتكنولوجيا، هذا أمر محسوم، والذي لا يسلك طريق العلم يظل يراوح مكانه الى ما شاء الله".
يشكِّل الكتاب، من خلال منهجيته التشريحية لتاريخ الحضارات عموماً، والحضارة العربية الاسلامية خصوصاً، مساهمة غنية في دراسة التحولات الاجتماعية والثقافية ودعوة الى يقظة من أجل تحقيق نهضة جديدة ترقى بالدول العربية الى مصاف الدول المتقدمة.
النهار
(1) منشورات دار الفارابي، (216 صفحة)
إرسال تعليق