Home » » "الوجه السياسي للثقافة العربية المعاصرة'...أدوات الهيمنة الثقافية أشد خطورة من العسكرية

"الوجه السياسي للثقافة العربية المعاصرة'...أدوات الهيمنة الثقافية أشد خطورة من العسكرية

رئيس التحرير : Unknown on الجمعة، 4 يناير 2013 | 5:41 م



يعد كتاب 'الوجه السياسي للثقافة العربية المعاصرة' لمؤلفه رشيد الحاج صالح دعوى جادة لممارسة النقد الشفاف والتحليل السياسي لمختلف الأفكار والقيم السياسية والاجتماعية والدينية والتاريخية المتداولة اليوم في الثقافة العربية المعاصرة، سواء بين أوساط النخبة أو داخل الثقافة الشعبية العربية.

فالمؤلف يعول كثيرا على قدرة القارئ العربي على الكشف عن 'التسلط الفكري والثقافي' الذي يمارس عليه في الصحافة والفضائيات والجوامع والمدارس ودور الإفتاء، ومختلف المؤسسات الثقافية والسياسية منذ زمن طويل، أما أداته في الكشف عن ذلك التسلط فهو آخر ما توصلت إليه العلوم الإنسانية المعاصرة من مناهج ونظريات، هذه العلوم التي تمكنت مؤخراَ من الكشف عن 'أشكال التسلط الخفية' في مختلف أشكال المعرفة الدينية والسياسية والاجتماعية.

ويلفت الحاج صالح إلى أنه على الرغم من أن غالبية شعوب العالم المتقدم قطعت شوطاَ لا بأس به في مشوار التحرر من أشكال هيمنة الثقافة السياسية الفاسدة، وتسلط مثقفي العسكر وفقهاء السلطان، إلا أن عالمنا العربي لا يزال يرزح تحت هيمنة أشكال السلطة الحيوية، كما يسميها فوكو. فالإنسان العربي عانى طويلاَ من التجاهل والتهميش والاستبعاد السياسي والاستنزاف المعنوي، ناهيك عن الاختلاق الوهمي لأهداف لاواقعية.

فاليوم لا يخفى على الكثيرين أن التغني بالأمجاد ورفع شعارات القومية والوحدة لا يراد منه سوى التمويه على الواقع المرير والمأساوي الذي فرضه الطغاة على شعوبهم، أما التغني بالمستقبل المشرق فلا يخفي سوى الفشل في حل مشكلات الحاضر وإفلاس برامج التنمية الفاسدة، كما أن توجيه اللعنات للغرب لا يحقق سوى التمويه عن العجز السياسي الذي يعاني منه النظام السياسي العربي المعاصر. وهذا الامر ينطبق على الشعارات الدينية التي تطلب النهوض فهي شعارات تخدم مصالح فئة رجال الدين، وتبرر تدخلهم في السياسة، وتزيد من نفوذهم، وليس لها علاقة بالغيرة على الدين، أو تطبيق الشريعة الإسلامية، كما أكد بحق ذات يوم محمد عبده.

ولذلك يأخذ الكتاب على عاتقه مهمة الكشف عن آليات تكوين الآراء والأفكار السياسية في الثقافة العربية المعاصرة عبر تحليله لـ'سوسيولوجية الوعي السياسي'، ومدى تأثير الفئات الثقافية المهيمنة في إنشاء فكر سياسي يعج بالأوهام السياسية والخرافات العقائدية، أما في مجال الوعي الديني فإنه يلجأ إلى تحليل كيفية نشوء وعي ديني وهمي ليس له من هم سوى الاستيلاء على 'العقل الجمعي للناس'، والهيمنة على عواطفهم، وذلك عبر إنشاء نوع من التشبيك للوعي الديني للناس بالإيديولوجيا وهموم الناس وضغوطات الحياة، بحيث يتحول الدين بيد بعض الفئات إلى وسيلة للهيمنة، وبيد فئة ثانية إلى وسيلة للهروب من الواقع، وبيد فئة ثالثة إلى مجال لتصفية الخلافات السياسية، وبيد فئة رابعة إلى أداة لتحقيق الأمان النفسي، وبيد فئة خامسة إلى مكان يباع فيه المستقبل، وبيد فئة سادسة إلى أداة للمقاومة، وبيد فئة سابعة إلى أداة للثورة والتغيير.

وينطلق الكتاب من نموذج نظرية يقوم على فرضيتين: الأولى أن الثقافة في المجتمع تنقسم إلى ثقافة مهيمنة وهي ثقافة الفئات الأقوى في المجتمع والأكثر نفوذاَ، وثقافة مهيمن عليها وهي ثقافة الفئات المهمشة سياسياَ والفقيرة اقتصادياَ والمتخلفة اجتماعياَ والمُجهلة دينياَ.هكذا تقوم الثقافة المهيمنة بتوجيه الثقافة المهيمن عليها بطريقة خفية، بحيث يتلقى المجتمع عموماَ ثقافة الفئات المسيطرة بكل رضى واعتزاز، علماَ أن الثقافة المهيمنة ليس لها من هم سوى تحقيق المزيد من السيطرة للسلطات السياسية والاجتماعية والدينية عبر دفع الناس إلى التكيف نفسياَ وروحياَ وسياسياَ ودينياَ مع الطغاة ومؤسساتهم التسلطية، بحيث ينظر إلى الفقر - على سبيل المثال - على أنه ظاهرة طبيعية من الناحية السياسية، مقدرة من الناحية الدينية، ومجال للاعتزاز والفخر من الناحية الاجتماعية، وكل ذلك بغية إخفاء الأسباب السياسية للفقر والتي تعود لفساد السلطة السياسة.

أما الفرضية الثانية التي ينطلق منها الكتاب فهي أن معارف المجتمع وعقائده وقيمه ذات مضمون سياسي متخف. فمضمون مفاهيم الخير والحق والعدالة والكرامة والحرية والعيب والحرام.... الخ، تصنعه وتسوقه السلطة السياسية والدينية بامتياز، بحيث تخدم تلك المضامين بقاء السلطة السياسية وتُمكنها من السيطرة على وعي الناس.

كما يفرد المؤلف فصلاَ كاملاَ للحديث عن 'الصراع السياسي على الدين' للوقوف على الوسائل السياسية والفقهية التي تسعى للسيطرة على فهم الدين وتفسيره، وتحويل تديٍّن رجل الشارع من الاهتمام بالدور التاريخي للدين الإسلامي في التحرر والتحضر إلى وسيلة لتأمين الهيمنة لفئة رجال الدين. فقد اتضح مثلاً أن مفهوم 'الفقه'، على سبيل المثال، هو مفهوم سياسي وليس دينيا، وأن الفقهاء تاريخيا ليس لهم دور سوى التسويق للسلطة السياسية وإيجاد التبريرات الدينية لأفعالها وسياساتها. فالفقهاء هم تاريخياَ فئات كسالى وليس لهم من عمل يقومون به، كما يؤكد الصادق النيهوم. أما تيار 'أسلمة العلوم'، فقد تبين أنه توجه ذو أبعاد سياسية، ولا تحركه أي غيرة على الدين، أو بناء العلوم على أسس دينية، ولذلك نجده يتوقف مطولاَ عند الأبعاد السياسية الخفية لهذه الظاهرة.

وينهي الباحث كتابه بفصل يخصصه لمناقشة وضع التراث في ثقافتنا اليوم، ليجد وبعد دراسة إحصائية موسعة أن التراث المتداول اليوم، الذي نتغنى به في كل مناسبة، يعود في غالبيته العظمى إلى 'عصر الخراب' كما يسميه ابن خلدون، ولا يوجد من كتب عصر الازدهار إلا النزر اليسير. ولذلك نجده يبحث في الأسباب السياسية التي تقف وراء هذا التزييف الهائل للتراث، ولماذا استعاد العرب المعاصرون كتب التراث التي تتسم بالسطحية والانغلاق والتعصب والجمود، وهي كتب تعود لعصور التراجع والضعف، حيث انتشرت الفتن السياسية والحروب الداخلية وسيادة منطق العنف والقوة. وبالمقابل تركوا كتب عصور الازدهار حيث المساحة الواسعة للبحث والاختلاف والتعددية العقائدية والفقهية. لينتهي الباحث من هذا التحليل إلى أن التراث المقروء اليوم يساعد على تنمية ثقافة الطاعة، ودفع الناس للتعصب، وتجهيل الناس بدورهم السياسي والتاريخي، وهي أهداف تلتقي فيها الفئات السياسية والدينية المهيمنة على المجتمعات العربية.

وينهي المؤلف كتابه بخاتمة يقدم من خلالها مجموعة من الأفكار التي يطرحها للبحث، والمتمثلة بضرورة إعادة النظر في مكانة المثقف في المجتمع، وضرورة توقف المثقفين عن القيام بدور شعبوي يجاري أحلام الناس السياسية، بعيداَ عن نشر الثقافة النقدية والعمل على رفع الوعي السياسي والديني. كما يلفت الباحث إلى أن الأدوات الثقافية غير المباشرة في الهيمنة لها دور أكبر بكثير من دور الأدوات العسكرية والأمنية، وهذا ما يفسر اهتمام الأنظمة السياسية بالتربية وحرصها على الإشراف الكامل على الجامعات والجوامع والمدارس والإعلام. ولذلك يقترح المؤلف أن التفكير السياسي يكون في قضايا ليست سياسية، ذلك أن انتشار طرق التفكير الخرافي، وسطحية خطب يوم الجمعة، وترهل التعليم، وتراجع الصحة النفسية للناس، وانتشار النفاق والرياء، وضعف الشخصية، وانتشار ثقافة التعصب، هي في النهاية ظواهر لها أهداف سياسية لابد من البحث فيها وكشفها.




الكتاب : الوجه السياسي للثقافة العربية المعاصرة

المؤلف : رشيد الحاج صالح

الناشر: الدارالعربية للعلوم ـ ناشرون ـ بيروت 

عام النشر :2012

عدد الصفحات : 303
إنشر هذا الخبر :

إرسال تعليق