بقلم: د. عبدالعليم محمد
مثلت الماركسية وأيديولوجية التحرر الوطني والإسلام مرجعيات الثورات حتى عقد التسعينيات (ثورة 1917، ثورة 1952، الثورة الإيرانية 1979).
على خلاف هذه الثورات لم تنخرط الثورة المصرية وكذلك الثورة التونسية، في أي من هذه التقاليد، رغم مشاركة جميع الأطراف التي تنتمي لهذه التقاليد بدرجات متبانية، وتميزت هذه الثورة بمشاركة أطراف حزبية وغير حزبية لا تنتمي لأي من هذه الأحزاب القائمة والأطراف عبر حزبية تنتمي لأكثر من جماعة حزبية، لم تكن الثورة المصرية والتونسية تمتلك تنظيماً موحداً أو قيادة موحدة أيديولوجية، تهيمن على مجرياتها وتحدد برامجها.
كذلك فإن الثورات العربية وعلى الأخص الثورات المصرية والتونسية واليمنية قد اختلفت في مضمونها وفحواها ومحتواها عن الموجة الثورية التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية في نهاية عقد الثمانينيات وأوائل التسعينيات، حيث كانت هذه الثورات تستلهم نموذج الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق في مواجهة نظام الحزب الواحد الشيوعي المتسلط والبيروقراطية الحزبية والأمنية التي تدير الاقتصاد والسياسة برعاية الدولة.
تشترك الثورة المصرية والتونسية مع ثورات أوروبا الشرقية في الطابع السلمي وغير العنيف، وإنجاز مهمة إسقاط النظام الاستبدادي في عدة أيام (10 أيام في ألمانيا الشرقية و5 أيام في رومانيا، وثمانية عشر يوماً في مصر وما يقرب من الشهر في حالة تونس).
ويبدو أن وضوح الهدف في حالة بلدان أوروبا الشرقية أي الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق.
بيد أن الأمر فيما يتعلق بالثورات المصرية والتونسية يختلف من زوايا كثيرة، يجئ في مقدمتها انخراط هذه الثورات في روحية جديدة، من حيث احتشاد أعداد كبيرة في الميادين ودخول المواطن العادي الفرد كعنصر مؤثر ومشارك في التغيير عبر شبكات التواصل الاجتماعي في الشبكة الدولية للمعلومات، وهو ما وفر لهذه الثورات إعلاماً رخيصاً أقل تكلفة، وسهل انضمام الملايين من الأفراد للمشاركة في الثورة.
من ناحية أخرى فإن الأهداف التي طرحتها الثورة المصرية التي تلخصت في الكلمات الثلاث "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية" لم تكن معرفة بدقة، ولم تترجم إلى برامج عملية سياسية اجتماعية واقتصادية، يستهدف الثوار تحقيقها سواء بأنفسهم أو بمن يولونه الثقة لتحقيقها.
ورغم أن بساطة هذه الشعارات في لغتها ومضمونها كان يبدو جاذباً لقطاعات عريضة من المواطنين للمشاركة في فعاليات الاحتجاج والثورة، فإنه في واقع الأمر فتحت هذه الشعارات الباب واسعاً لترجمتها وتأويلها وفق أيديولوجيات وأهواء الأطراف الفاعلة في المشهد الذي أعقب نجاح الثورة في إسقاط رموز النظام! حيث إنه من الناحية العملية تنطوي هذه الشعارات على إمكانية الترجمة لعدد واسع من الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي لا تحظى باعتراض مختلف الأطراف، بل حتى النظام القديم الذي لم يسقط بعد رغم غياب رموزه، بمقدوره التأقلم مع هذه الشعارات.
افتقدت الثورة المصرية إلى قيادة منظمة وموحدة ومهيمنة، فهي لم تكن ثورة حزب أو جماعة سياسية أو طبقة بل كانت حصاد مشاركات جيل من الشباب المنتمي للطبقة الوسطى جمع بين غير المنتمين وغير الحزبيين والحزبيين في آن انضمت إليهم فيما بعد قطاعات عريضة من المواطنين، وهذا الافتقار إلى التنظيم والقيادة يحمل معاني إيجابية وسلبية، فمن الناحية الإيجابية لا يستطيع أي طرف شارك في الثورة أن يزعم أنه صاحبها ومفجرها، ومن ثم يفضي ذلك على الأقل نظرياً إلى الحيلولة دون الاستحواذ على الثورة من قبل طرف واحد، كما أنه من ناحية أخرى يحول دون خضوع الثورة لبرنامج حزبي موضوع ومعد سلفاً قد يثير حساسية الأطراف الأخرى أو يحفز الخلاف مع القوى الأخرى أو قد لا يحظى برضا جميع الأطراف وتوافقها، إلا أنه من ناحية أخرى يعرض الثورة للاختطاف من قبل جماعة الإخوان المسلمين.
على صعيد آخر فإن افتقار التنظيم والقيادة الموحدة يبدو كأنه الميزة الأساسية التي انفردت بها الثورة المصرية والثورات العربية، وأحد خصائصها البنيوية التي تؤهلها لتجاوز أفق الديمقراطية التمثيلية الليبرالية من حيث إنها تطرح مشاركة جميع المواطنين في مستويات صنع القرار والتأثير في السياسات وفتح قنوات جديدة للتواصل بين مؤسسات النظام وبين المواطنين بعد تعثر هذا التواصل في إطار الممارسة الديمقراطية الليبرالية.
وفي هذا الإطار فإن الثورة المصرية تحديداً انطوت على تناقض مؤثر، مارس تأثيره في طبيعتها ومدى اقترابها من أهدافها، ذلك أن طبيعة أية ثورة ترتكز عملياً على بعدين أساسيين أولهما الحركة وثانيهما التغيير والتوازن الدقيق بينهما.
وقد أفضى ذلك عملياً إلى عدم التناسب بين الحركة والتغيير ذلك أن معدلات الحركة فاقت بكثير معدلات التغيير وظلت مؤسسات النظام القديم هي التي تمسك بزمام الأمور بعد نجاح الثورة في إسقاط رموز النظام القديم.
واستمرت النظم القديمة في الحكم بدرجات متفاوتة كذلك وفي هذا السياق انطوت الثورات العربية والثورة المصرية على نحو خاص على تناقض مهم بين الرغبة الثورية والتطلع إلى الجديد وبين الطريق الإصلاحي لمؤسسات الدولة، فرغم الرغبة الثورية الجامحة والقوية إلا أن فحواها اتجه صوب إصلاح مؤسسات الدولة وأن تقوم هذه المؤسسات بإصلاح نفسها بدلاً من استيلاء الثوار عليها وإدارتها أو خلق منظمات بديلة لها.
ولا شك أن هذه الخصائص البنيوية للثورة المصرية تحفظ لها القدرة على التجدد والاحتفاظ بالزخم الثوري حتي تحقق أهدافها التي تتضح أبعادها وملامحها عبر التجربة والزمن.
جريدة الأهرام
مثلت الماركسية وأيديولوجية التحرر الوطني والإسلام مرجعيات الثورات حتى عقد التسعينيات (ثورة 1917، ثورة 1952، الثورة الإيرانية 1979).
على خلاف هذه الثورات لم تنخرط الثورة المصرية وكذلك الثورة التونسية، في أي من هذه التقاليد، رغم مشاركة جميع الأطراف التي تنتمي لهذه التقاليد بدرجات متبانية، وتميزت هذه الثورة بمشاركة أطراف حزبية وغير حزبية لا تنتمي لأي من هذه الأحزاب القائمة والأطراف عبر حزبية تنتمي لأكثر من جماعة حزبية، لم تكن الثورة المصرية والتونسية تمتلك تنظيماً موحداً أو قيادة موحدة أيديولوجية، تهيمن على مجرياتها وتحدد برامجها.
كذلك فإن الثورات العربية وعلى الأخص الثورات المصرية والتونسية واليمنية قد اختلفت في مضمونها وفحواها ومحتواها عن الموجة الثورية التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية في نهاية عقد الثمانينيات وأوائل التسعينيات، حيث كانت هذه الثورات تستلهم نموذج الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق في مواجهة نظام الحزب الواحد الشيوعي المتسلط والبيروقراطية الحزبية والأمنية التي تدير الاقتصاد والسياسة برعاية الدولة.
تشترك الثورة المصرية والتونسية مع ثورات أوروبا الشرقية في الطابع السلمي وغير العنيف، وإنجاز مهمة إسقاط النظام الاستبدادي في عدة أيام (10 أيام في ألمانيا الشرقية و5 أيام في رومانيا، وثمانية عشر يوماً في مصر وما يقرب من الشهر في حالة تونس).
ويبدو أن وضوح الهدف في حالة بلدان أوروبا الشرقية أي الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق.
بيد أن الأمر فيما يتعلق بالثورات المصرية والتونسية يختلف من زوايا كثيرة، يجئ في مقدمتها انخراط هذه الثورات في روحية جديدة، من حيث احتشاد أعداد كبيرة في الميادين ودخول المواطن العادي الفرد كعنصر مؤثر ومشارك في التغيير عبر شبكات التواصل الاجتماعي في الشبكة الدولية للمعلومات، وهو ما وفر لهذه الثورات إعلاماً رخيصاً أقل تكلفة، وسهل انضمام الملايين من الأفراد للمشاركة في الثورة.
من ناحية أخرى فإن الأهداف التي طرحتها الثورة المصرية التي تلخصت في الكلمات الثلاث "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية" لم تكن معرفة بدقة، ولم تترجم إلى برامج عملية سياسية اجتماعية واقتصادية، يستهدف الثوار تحقيقها سواء بأنفسهم أو بمن يولونه الثقة لتحقيقها.
ورغم أن بساطة هذه الشعارات في لغتها ومضمونها كان يبدو جاذباً لقطاعات عريضة من المواطنين للمشاركة في فعاليات الاحتجاج والثورة، فإنه في واقع الأمر فتحت هذه الشعارات الباب واسعاً لترجمتها وتأويلها وفق أيديولوجيات وأهواء الأطراف الفاعلة في المشهد الذي أعقب نجاح الثورة في إسقاط رموز النظام! حيث إنه من الناحية العملية تنطوي هذه الشعارات على إمكانية الترجمة لعدد واسع من الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي لا تحظى باعتراض مختلف الأطراف، بل حتى النظام القديم الذي لم يسقط بعد رغم غياب رموزه، بمقدوره التأقلم مع هذه الشعارات.
افتقدت الثورة المصرية إلى قيادة منظمة وموحدة ومهيمنة، فهي لم تكن ثورة حزب أو جماعة سياسية أو طبقة بل كانت حصاد مشاركات جيل من الشباب المنتمي للطبقة الوسطى جمع بين غير المنتمين وغير الحزبيين والحزبيين في آن انضمت إليهم فيما بعد قطاعات عريضة من المواطنين، وهذا الافتقار إلى التنظيم والقيادة يحمل معاني إيجابية وسلبية، فمن الناحية الإيجابية لا يستطيع أي طرف شارك في الثورة أن يزعم أنه صاحبها ومفجرها، ومن ثم يفضي ذلك على الأقل نظرياً إلى الحيلولة دون الاستحواذ على الثورة من قبل طرف واحد، كما أنه من ناحية أخرى يحول دون خضوع الثورة لبرنامج حزبي موضوع ومعد سلفاً قد يثير حساسية الأطراف الأخرى أو يحفز الخلاف مع القوى الأخرى أو قد لا يحظى برضا جميع الأطراف وتوافقها، إلا أنه من ناحية أخرى يعرض الثورة للاختطاف من قبل جماعة الإخوان المسلمين.
على صعيد آخر فإن افتقار التنظيم والقيادة الموحدة يبدو كأنه الميزة الأساسية التي انفردت بها الثورة المصرية والثورات العربية، وأحد خصائصها البنيوية التي تؤهلها لتجاوز أفق الديمقراطية التمثيلية الليبرالية من حيث إنها تطرح مشاركة جميع المواطنين في مستويات صنع القرار والتأثير في السياسات وفتح قنوات جديدة للتواصل بين مؤسسات النظام وبين المواطنين بعد تعثر هذا التواصل في إطار الممارسة الديمقراطية الليبرالية.
وفي هذا الإطار فإن الثورة المصرية تحديداً انطوت على تناقض مؤثر، مارس تأثيره في طبيعتها ومدى اقترابها من أهدافها، ذلك أن طبيعة أية ثورة ترتكز عملياً على بعدين أساسيين أولهما الحركة وثانيهما التغيير والتوازن الدقيق بينهما.
وقد أفضى ذلك عملياً إلى عدم التناسب بين الحركة والتغيير ذلك أن معدلات الحركة فاقت بكثير معدلات التغيير وظلت مؤسسات النظام القديم هي التي تمسك بزمام الأمور بعد نجاح الثورة في إسقاط رموز النظام القديم.
واستمرت النظم القديمة في الحكم بدرجات متفاوتة كذلك وفي هذا السياق انطوت الثورات العربية والثورة المصرية على نحو خاص على تناقض مهم بين الرغبة الثورية والتطلع إلى الجديد وبين الطريق الإصلاحي لمؤسسات الدولة، فرغم الرغبة الثورية الجامحة والقوية إلا أن فحواها اتجه صوب إصلاح مؤسسات الدولة وأن تقوم هذه المؤسسات بإصلاح نفسها بدلاً من استيلاء الثوار عليها وإدارتها أو خلق منظمات بديلة لها.
ولا شك أن هذه الخصائص البنيوية للثورة المصرية تحفظ لها القدرة على التجدد والاحتفاظ بالزخم الثوري حتي تحقق أهدافها التي تتضح أبعادها وملامحها عبر التجربة والزمن.
جريدة الأهرام
إرسال تعليق