بقلم: فاروق جويدة
كل الشواهد حولنا تحملنا إلى صدام متوقع بين القوى السياسية في مصر.. لقد استنفدت هذه القوى كل الأساليب في مواجهة بعضها البعض منذ قيام الثورة ابتداء بالإتهامات والتخوين والعمالة وانتهاء بالشتائم والبذاءات والإهانة.. ولم يبق امامها غير الصدام وقد حدثت منه بروفة بسيطة بين الإخوان المسلمون والتيارات الليبرالية يوم الجمعة 12 اكتوبر حيث سقط عشرات الجرحى والمصابين، وكان من الممكن ان يتحول المشهد إلى كارثة دموية ولكن الله سلم.
بعد ما يقرب من عامين من قيام ثورة يناير تقف جميع القوى السياسية التي شاركت فيها في حالة من الرفض الكامل لبعضها فقد تجاوزت مرحلة الخلافات والحوار الذي انقطع تماما والتواصل الذي لم يعد له مكان.. نحن الآن امام صراع وصل إلى درجة تكسير العظام والإقصاء وليس التواصل والحوار.. من يتابع ما يجري في الساحة سرا أو علنا بين القوى السياسية يدرك اننا امام مأزق حقيقي وان هذه القوى فشلت تماما في قبول بعضها البعض أو إيجاد صيغة للتفاهم رغم اننا امام وطن يواجه ظروفا قاسية على كل المستويات.
القوى السياسية في مصر الآن في حالة رفض كامل لبعضها، وهنا لا يمكن ان نسأل عن أشياء غابت مثل الحوار أو التنسيق أو التوافق.. حين يصل الخلاف إلى درجة الرفض المطلق فهذا يعني اننا امام كارثة لأن كل فريق يبرر حقه في إسقاط الآخر بكل الوسائل المشروع منها وغير المشروع.. والغريب في الأمر ان الانقسام لم يعد قاصرا على فريقين يتنازعان بل انه وصل إلى حالة من التمزق اصابت جميع القوى السياسية.
< نحن امام الإخوان المسلمين وهم يصرون على الاستيلاء على كل مؤسسات الدولة وليس لديهم استعداد لأي نوع من المشاركة في سلطة القرار، وقد اعطى ذلك مبررات كثيرة للقوى الأخرى في ان تستخدم كل الأساليب لمواجهة ذلك.
< نحن امام تيار ليبرالي علماني مشرذم لم يتفق على هدف واحد أو شخص واحد أو زعامة واحدة، وهو يعتقد ان مسئوليته الآن هي إسقاط سلطة الإخوان، وهو يعلم انها سلطة شرعية منتخبة، وهذا يمثل قمة التناقض في الفكر والسلوك.
< نحن امام شعب يعاني ظروفا اقتصادية صعبة وليس له أي علاقة بهذا اللهو السياسي الذي تعبث به القوى السياسية..
نحن امام تيارات سياسية أخرى في مقدمتها السلفيون والصوفية وهذه التيارات لا تقف على ارضية فكرية واحدة مع الإخوان المسلمين كما انها ترفض بعضها احيانا وترفض التيارات الليبرالية بصورة كاملة.. ولكنها على استعداد لأن تلعب السياسة مع كل هذه الأطراف بصورة مرحلية ابعد ما تكون عن الدين وثوابته ومنطلقاته.
< بعيدا عن الأضواء يقف تيار لا يستهان به وهو ما بقي من الحزب الوطني والقوى السياسية المساندة للنظام السابق وهي تنتظر الفرصة للانقضاض على الجميع وفي نفس الوقت تساندها بعض القوى الكامنة في عدد من مؤسسات الدولة المهمة التي مازالت ترى ان الفرصة قد تجئ للعودة إلى الأضواء مرة أخرى بصورة جديدة، لا بد ان نعترف ان هناك جبهات كثيرة في مؤسسات الدولة مازالت تربطها مصالح قوية مع النظام السابق وهي لم تستلم بعد.
هذا المشهد المرتبك يؤكد ان الثورة بكل افكارها ورموزها قد تحولت إلى كيان متشرذم بين كل هذه القوى.. من يصدق ان ثوار الأمس يرفضون الآن بعضهم تماما، بل وصل الأمر إلى حد التخوين بين دماء سالت في ميدان التحرير وشباب توحدت إرادته ومواقفه في لحظة تاريخية نادرة.
لقد وصل الصراع بين هذه القوى المتصارعة إلى محاولات لاستقطاب اطراف أخرى حتى ان البعض يتصور الأن لقاءات ومشاورات بين قوى الماضي المستبد، وما بقي من قوى الثورة لمواجهة الإخوان المسلمون والسلطة الحاكمة برغم شرعيتها.
< هناك تنسيق يجري في الكواليس الآن استعدادا للانتخابات البرلمانية القادمة بين فلول الوطني المنحل والقوى السياسية الليبرالية ضد التيارات الإسلامية.. والغريب في الأمر ما أثير من حكايات حول مفاوضات دارت في السر بين التيارات الدينية في فترة مضت ورموز النظام السابق والجميع لم يكذب هذه الحكايات.. وهذا يعني اننا قد نجد انفسنا امام مفاجآت من هذا النوع.
وسط هذه الحالة من الانقسام الذي قد يصل إلى المواجهة بين هذه التيارات تبدو امامنا شواهد كثيرة تثير القلق، في مقدمتها ما حدث في ميدان التحرير من مواجهات دامية بين الإخوان المسلمين والقوى السياسية الأخرى.. والأغرب من ذلك ان تحدث احتكاكات بين القوى الليبرالية مرة اخرى في جمعة مصر ليست عزبة وما حدث بين التيار الشعبي وتيار المؤتمر.
< لا نستطيع ان نفصل هذا المشهد عما حدث في قصة النائب العام المستشار عبد المجيد محمود وانقسام القوى السياسية بهذه الصورة المؤسفة ودخول نادي القضاة إلى حلبة الصراع بحيث تحولت القضية إلى مواجهة بين مؤسسة الرئاسة والقضاء برغم ان موقف المجلس الأعلى للقضاء كان مترفعا وحكيما.. إلا ان الإعلام وجدها فرصة لإشعال المزيد من الفتن والكثير من المكاسب..
في هذا المشهد ايضا ما يجري حول معركة الدستور وماتشهده من تجاوزات ضد المشاركين في هذا العمل الوطني الكبير خاصة الحملة التي يتعرض لها المستشار حسام الغرياني رئيس الجمعية، أو ما تتعرض له رموز وطنية مثل عمرو موسى وايمن نور وابو العلا ماضي والقيادات الدينية من مسلمين واقباط.. ان انتقاد اعمال الجمعية ومناقشة مواد الدستور حرفا حرفا حق للجميع، ولكن التجاوز والتهجم على أعضاء الجمعية وتشويه صورتهم في الإعلام شيء لا يليق.
< كان دخول المحكمة الدستورية العليا دائرة الخلاف حول الدستور امر يثير الحيرة والقلق، خاصة انه جاء في مؤتمر صحفي علني وكان ينبغي ان يتم التواصل مع الجمعية من خلال ملاحظات واضحة وصريحة من المحكمة الدستورية، ولا اعتقد ان أحدا يمكن ان يعترض عليها فسوف تلقي كل التقدير من اعضاء الجمعية.. وفي هذا السياق ايضا كانت اعتراضات النيابة الإدارية وقضايا الدولة والقضاة بصفة عامة وما حدث من ملابسات بين هذه الجهات وجمعية الدستور. في ظل هذه الحالة من الفوضى الإعلامية كانت موجات الإضرابات الفئوية ما بين الأطباء والمدرسين وسائقي التاكسي والميكروباصات ومشاكل البوتاجاز والمازوت والبنزين تجتاح الشارع المصري ووجد الإعلام فرصته في إشعال الفتن واستغلال كل هذه الظروف الصعبة التي تمر بها مصر، وزاد على ذلك خطاب تقديم السفير المصري في تل ابيب وتصريحات المسئولين في حزب الحرية والعدالة حول مراقبة التليفونات في مؤسسة الرئاسة، وفي ظل هذا المشهد نجد انفسنا امام اسباب كثيرة حتى وان كانت مفتعلة لصدام قادم إذا استمرت الأحوال تمضي في هذا المسار:
نحن امام قوى سياسية ترفض بعضها تماما وتقطعت بينها كل سبل التواصل والحوار، ان القوى الليبرالية تعطي نفسها الحق في السعي لإسقاط الشرعية المنتخبة، وهذا درس جديد من دروس الديمقراطية المصرية الوليدة لم نعرفه بعد..
والقوى الإسلامية وجماعة الإخوان المسلمين مازالت تعيش نشوة الوصول للسلطة وترى انها قادرة وحدها ان تقود السفينة حتى ولو أغرقتها برغم ان كل الشواهد تقول ان المسئولية صعبة للغاية..
نحن امام قوى اخرى تتربص بالثورة التي لم تعترف بها اطلاقا وللأسف الشديد ان بين مؤسسات الدولة المهمة والحساسة من يؤمن بهذا الفكر ويتخذ هذه المواقف هناك رؤوس كبيرة في مؤسسات الدولة تعتقد ان التخلص من كل ما حدث في يناير 2011 امر ممكن وغير مستحيل وهذه الرؤوس لا تخفي مواقفها واغراضها..
هناك عشرات الملايين الذين ينتظرون حياة توفر لهم قدرا من الكرامة ولا يعنيهم فوز الإخوان أو هزيمة الليبراليين أو الانتخابات البرلمانية أو الإضرابات الفئوية.. هؤلاء الناس ضاقت بهم الأرض بما رحبت ولا يريدون غير الأمن والاستقرار ومجتمع يوفر لهم مطالبهم الأساسية.
وسط هذه الدوامات التي تسير عليها الآن سفينة الوطن نجد انفسنا امام احتمالات ثلاثة لا بديل لها:
أولا: ان تتفق القوى السياسية على اهداف محددة لتجاوز هذه الأزمة وهذا يتطلب ان تعود فصائل الإخوان المسلمين إلى الشارع مرة اخرى للالتحام مع بقية القوى السياسية مهما كانت درجة الخلافات للوصول إلى صيغة للتعاون والتفاهم والتوحد إذا كان ذلك ممكنا لا بديل عن مصالحة وطنية تشارك فيها جميع القوى السياسية ولتكن نقطة البداية هي إغلاق الملفات القديمة وفتح صفحات جديدة في كل شيء تنطلق من دعوة الرئيس محمد مرسي للالتقاء مع جميع القوى السياسية وفتح جميع الملفات وان تفتح القوى الليبرالية صفحات للحوار مع الإخوان المسلمون وبقية التيارات الدينية مع اختيار زعامات وطنية قادرة على توحيد الصفوف وليس نشر الفرقة والفتن بين القوى السياسية.
ثانيا: ان تسعى جميع التيارات السياسية بمشاركة مؤسسات الدولة لوقف عمليات التظاهر والإضرابات الفئوية بحيث يتم التفاوض على وضع جداول زمنية لتلبية الاحتياجات الفئوية في ظل خطة واضحة للحكومة لتوفير موارد تمويل الميزانية ومواجهة مطالب هذه الفئات خلال فترات زمنية محددة مع التركيز على مطالب الطبقات الفقيرة.
ثالثا: إذا فشلت القوى السياسية في تدارك الأمر ومواجهة الأزمات المتتالية التي تجتاح مصر الآن، ووضع صيغة لمصالحة وطنية سريعة وجادة عليها ان تنتظر المجهول وللأسف الشديد ان الفوضى هي البديل الثالث لما نرى من الإنقسام والصدام المحتمل، وساعتها سوف نكتشف اننا أضعنا فرصة تاريخية في ان نكون مجتمعا ديمقراطيا حرا وكريما حيث يهبط علينا من يقول تركنا لكم السلطة لتكونوا احرارا فكان بينكم ما كان، والأمانة تقتضي منا الأن حماية الوطن من عبث السياسة وصخب السياسيين.
.. ويبقى الشعر
يا للمدينة حين يبدو سحرهـــــــــا
وتتيه في أيامها النضـــــــــــــرات
ومواكب الصلوات.. بين ربوعها
تهتز أركان الضلال العاتــــــــــــي
في ساحة الشهداء لحن دائـــــــــم
صوت الخيول يصول في الساحات
والأفق وحي.. والسماء بشائـــر
والروضة الفيحاء تاج صلاتـــــــي
ويطوف وجه محمد في أرضهـــا
الماء طهري.. والحجيـج سقـاتـــي
ماذا أقول أمام نورك سيـــــــــدي
وبأي وجه تحتفي كلمــاتـــــــــــــي
بالعدل.. بالإيمان.. بالهمم التي
شيدتها في حكمة وثبــــــــــــــات ؟
أم بالرجال الصامدين علي الهـــدي
بالحق.. والأخلاق.. والصلوات ؟
أم إنه زهد القلوب وسعيهـــــــــــا
لله دون مغانم وهبــــــــــــــــات ؟
أم أنه صدق العقيدة عندمـــــــــــا
تعلو النفوس سماحة النيــــــــات ؟
أم أنه الإنسان حين يحيطـــــــــــه
نبل الجلال وعفة الغايـــــــــات؟
أم انه حب الشهادة عندمـــــــــــا
يخبو بريق المال والشهـــــوات ؟
أم أنه زهد الرجال إذا علــــــــت
فينا النفوس علي ندا الحاجــات ؟
أم إنه العزم الجليل وقد مضــــي
فوق الضلال وخسة الرغبات ؟
بل إنه القرآن وحي محمــــــــــد
ودليلنا في كل عصــــــر آت..
يا سيد الدنيا.. وتاج ضميـــــرها
أشفع لنا في ساحة العثـــــرات
أنا يا حبيب الله ضاق بـي المدي
وتعثـرت في رهبة نبضاتــــي
وصفوك قبلي فوق كل صفــــات
نور الضمير وفجر كل حيـــاة
بشر ولكن في الضمير ترفــــــع
فاق الوجود.. وفاق أي صفات
وصفوك قبلي فانزوت أبياتـــي
وخجلت من شعري ومن كلماتي
ماذا أقول أمام بابك سيــــــدي
سكت الكلام وفاض في عبراتي
يارب فلتجعل نهاية رحلتـــي
عند الحبيب وأن يراه رفاتـــــي
يوما حلمت بأن أراه حقيقــــة
ياليتني القاه عند مماتــــــــــــي..
"من قصيدة على باب المصطفى سنة 2010"
نقلا عن جريدة الأهرام
إرسال تعليق