عاطف عبد الرحمن:
هل يستطيع الجن دفع الانسان الى الانتحار? سؤال يتردد كثيرا مع ارتفاع نسب الانتحار في المجتمعات الغربية والعربية, ومع تأكيد البعض ممن تم انقاذهم من محاولات الانتحار, بأن من دفعهم لذلك هم الجان, علاوة على اتخاذ الكثيرين من فيلمي "الانس والجن" و"التعويذة", دليلا على أن الجن له القدرة على توجيه الانسان لاتخاذه قرار التخلص من حياته.
حول التفسيرات العلمية والعوامل النفسية لانتحار البشر, وعلاقة الجن وعالم الميتافيزيقا بذلك, كان لـ "السياسة" هذا التحقيق:
يقول الدكتور هاني فكري, استشاري الصحة النفسية: انتشرت ظاهرة الانتحار في الخمسين سنة الأخيرة بصورة مفزعة, وارتفعت معدلاتها بشكل كبير في الدول الغربية كالسويد والدنمارك وسويسرا والولايات المتحدة رغم زيادة معدلات الثراء والرفاهية, بل انتشرت في تلك الدول مواقع رسمية تدعم طرق الانتحار والتخلص من الحياة من دون ألم وتروج لمواطنيها طرق الموت بسهولة ويسر, في حين لا تصل الدول العربية لهذه النسب الكبيرة من معدلات الانتحار قياسا بالغرب,رغم ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والمشكلات الاجتماعية فيها.
وتعتبر الظروف النفسية السيئة من أهم العوامل التي تدفع البشر للانتحار ورغم اقرار العلم بوجود الجن والعفاريت, لكن لا توجد صلة بين عالم الميتافيزيقا وانتحار البشر, خصوصاً وان القرآن الكريم تحدث عن هذا العالم, ووردت آيات كثيرة تتحدث عن الجن وتكليفهم مصداقا لقوله تعالى "وَخَلَقَ الْجَآنَ مِن مَارِجٍ مِن نَارٍ", الا أن الجن أضعف من دفع البشر للانتحار والتردي. والانسان يلجأ بشكل عام الى الانتحار عند تخطيه الخط الأحمر للرفاهية وبعد أن يكون حقق ذاته ولبى أغلب متطلباته المادية والعقلية, وأشبع شهواته وملذاته ولا يجد ما يفكر فيه ويستحق عناء البحث, عندها لا يرى الا الموت بديلا فيدفعه ذلك الى الانتحار, وغالبا ما يدخل المنتحر في حالة نفسية سيئة تنتهي بالاكتئاب الشديد, وهي المرحلة التي تدفعه الى الانتحار.
وعن مرحلة ما قبل الانتحار يوضح أن الانسان يعيش فترة حضانة استعدادًا للموت مدتها 3 أشهر, ويعطي رموزا واشارات حركية وتلميحات لا ارادية مبعثها الاكتئاب الشديد وقد يقوم بمحاولات انتحار "أولية وبسيطة" في ذروة اكتئابه, حيث ينتحر بالقاء نفسه من فوق عمارة أو يتمدد على قضبان السكك الحديدية, وهو ما يعرف بـ "الانتحار بالتفكير", وهناك من ينتحر من دون تفكير بأي وسيلة انتحار, وهو النوع الذي يصاب بيأس عارم, يقطع معه صلته بالتفكير, ويكون كل اتجاهه للموت والسبب في ذلك يرجع الى قلة الوازع الديني عند البعض ويأسهم من الحياة, وشعورهم بقلة حيلتهم في الوصول الى حلول للمشكلات التي تعترض حياتهم, وعدم ايمانهم بجدوى حياتهم, لذلك ليس للجن وخرافات ما وراء الطبيعة أي علاقة علمية أو نفسية في دفع الانسان للتخلص من حياته.
العزلة اهم الاسباب
يقول الدكتور عزت عبد الحميد محمد حسن, أستاذ علم النفس بكلية التربية جامعة الزقازيق: الانسان الذي يعيش منفردا سواء في العمل أو المنزل أو في الحياة, ويحيا من دون صداقات أو زواج يكون أكثر عرضة للانتحار, حيث يشعر في عزلته بالفشل والوحدة والعقاب المجتمعي وأنه غير سوي خصوصاً اذا كان بلا صداقات من الجنسين, كما يفقد الرغبة في العيش والحياة الجنسية والاستمتاع بالملذات الحياتية, ويرفض الانخراط في المجتمع ولا يتعايش مع آلام وأوجاع المحيطين به ولا يعبأ بها, وهذا الانسان الانطوائي يكون أكثر عرضة للانتحار من الشخص الاجتماعي الذي يحسن تفريغ شحناته الاجتماعية والنفسية التي يمر بها. ورغم أن الشخص المتزوج يعاني من الضغوط أكثر من غير المتزوج خصوصاً الضغوط المادية والاجتماعية وتحمله مسؤوليات المعيشة والأسرة, الا أن تفريغ الشحنات النفسية أولا بأول يجنبه الانتحار والاكتئاب والضيق النفسي, ويمنع المشكلات النفسية من التراكم, نافيا أن يكون للجن أي دور علمي أو نفسي في دفع البعض للانتحار, ولم يثبت حتى اليوم أن الجن له القدرة على دفع البشر الى الانتحار عن طريق قدراتهم الخرافية في التأثير, وجلب الضيق والكبت للبعض.
الأفلام السينمائية
يؤكد الدكتور مهدي محمد القصاص, أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة المنصورة, على أن علم الاجتماع ينظر الى الانتحار على أنه ظاهرة بغض النظر عن علاقته بالجن من عدمه, ولابد من البحث في أسبابه عند ارتفاع نسبته في المجتمع, وتتبعه ومقارنة نسبته في الماضي والحاضر حتى يتمكن المجتمع من معالجة هذه الظاهرة والقضاء عليها. متهما بعض الأفلام السينمائية بأن لها دورا كبيراً في ترسيخ اعتقاد المجتمعات العربية في قدرات الجن على دفع الانسان للانتحار, مثل فيلمي "الانس والجن" و"التعويذة", وغيرهما من الأفلام التي اعتمدت على الحبكة الدرامية أكثر من كونها حقيقة علمية مؤكدة, مطالبا بعدم الربط بين قدرات الجن التي خصهم بها المولي عز وجل وقدرات لم تخصص لهم كدفع بني الانس الى الانتحار أو جلب السعادة أو التعاسة أو أي من القدريات التي هي بيدي الله سبحانه وتعالى وحده, وهذه الخرافات تلقى آذانا صاغية من قليلي الحيلة ممن اعتادوا القاء تبعات تعثرهم الحياتي والمجتمعي على القوى الخفية والعوامل غير المرئية والمبالغة في قدراتها الى حد اضفاء صفات خارجة عن نطاق الجن والانس.
الوازع الديني
حول رأي الدين في ذلك, يقول الدكتور محمد رأفت عثمان, أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر, وعضو مجمع البحوث الاسلامية: يساهم نقص الوازع الديني وعدم توافر مبدأ حسن التوكل على الله وسلبيات التربية والتنشئة والعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعقدة والأعباء المادية الثقيلة, في دفع البعض الى الانتحار أو التفكير فيه, وهو من الأمور المؤثمة التي تورد صاحبها التهلكة ويموت على غير ملة الاسلام لأنه كفر بالله الواحد القهار, لقوله تعالى "ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة", كما قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَنْتَخِعُ بِهَا بَطْنَهُ فِي نَارِ جَهَنَمَ خَالِدًا مُخَلَدًا فِيهَا أَبَدًا, وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِسُمٍ فَسُمُهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَاهُ فِي نَارِ جَهَنَمَ خَالِدًا مُخَلَدًا فِيهَا أَبَدًا, وَمَنْ تَرَدَي مِنْ فَوْقِ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَي فِي نَارِ جَهَنَمَ خَالِدًا مُخَلَدًا فِيهَا أَبَدًا". وهذا بالطبع لا ينطبق على من يصاب بهلاوس نفسية أو عقلية ويسقط مغشيا عليه كمرضى الصرع, فلو مات أثناء ارتطامه بالأرض فهو ليس بآثم ولا منتحر, لأنه مريض.
ويطالب د. عثمان بعدم التهويل من قدرات الكائنات غير المرئية, فهي لا نفع منها ولا ضرر الا بأمر الله تعالى, مصداقا لقوله تعالى: "وما هم بضارين به من أحد الا باذن الله", نافيا ربط البعض بين قدرات الجن أو عالم الغيبيات والانتحار, مشيرا الى أن الظروف النفسية والعوامل المحيطة بالانسان ونقص الايمان بالله تعالى وقدرته جل شأنه على تصريف الأمور وتدبير الشئون خيرها وشرها هي الدافع الأول وراء الاقدام على الانتحار, ما يدخل من يقدم عليه في زمرة أهل النار يوم القيامة.
ويكمل د. عثمان بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بالاحسان الى اليتيم ورعايته وكفالته للحفاظ على البعد النفسي لديه لأنه يفتقد الى الرعاية والانخراط المجتمعي, ما يجنبه الاكتئاب والانتحار, وورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة, وأشار باصبعيه السبابة والوسطي", وهو توجيه ديني منه عليه الصلاة والسلام لمنع مثل تلك الحوادث وحض على الاهتمام بالتربية النفسية والمجتمعية."السياسة"
إرسال تعليق