بقلم / وائل بسيوني
وصل القطار متأخراً كما هي العادة في تلك القرية النائية وبينما هرول المنتظرون من طلاب الجامعة والموظفين و رواد المدينة لحجز أماكنهم - تحركت فاتن بهمة فاترة لتلقي بجسدها الضعيف وكاهلها المثقل بالهموم . . بجوار النافذة حيث وضعت رأسها في استسلام بالغ . . وحديثا يتسرب إلى نفسها "ترى كم بقي من هذه الرحلة المؤلمة "
يتحرك القطار بطيئاً فتتحرر الهموم من مكامنها و مع زفرات الأسى ينطلق البصر إلى الحقول الخضراء على مد البصر في محاكاة للفردوس المنشود ، جمال بكور الصبح وطيب هواه وصوت أطفالها يلعبون ويلهون وسط تلك الطبيعة الساحرة يصبغ بؤسها بقليل من الارتياح . . يسرع القطار أكثر فأكثر كأنما يسابق القدر ويسري الخدر في الجسد الواهن ، تتدافع الهموم لذكرى ابتسامة أطفالها عند عودتها . . كم من مرة تركتهم باكين لدى أمها لأجل هذه الرحلة . . تحاصرها الوساوس وتطبق عليها الهموم ، صدى كلمة يتردد بداخلها وتنقش أحداقها بأحرف من نار "أولادي" تقترب في الذاكرة صورة الأم العجوز عليلة الجسد ثم تتلاشى . . تتبعها صورة الأب السبعيني الفاني متكئا على عصاته . .ثم تتلاشى الصور وتبقى صورة الأطفال وحيدة وسط حقول
ومع سريان الخدر في البدن لحركة القطار تتلاحق الرؤى . . ، تطبق الغيوم على البصر فيفتح له أفق السماء . . يلوح باب ضيق في الأفق كأنما يفصل بين عالمين. . الباب ينفتح شيئا فشيئا تنساب عبره إلى فضاء مجهول . . في الأفق البعيد باب زاهي كضوء الشمس يخطف البصر . . باتساع ما بين السماء و الأرض تطير نحوه بلا أجنحة . . يأذن لها الخازن في الدخول لبرهة . . ترى ملكوتا فسيحا من حدائق ذات بهجة تجري الأنهار خلالها و من تحتها ماء ليس كالذي نعرف وحصى الأرض فيها من جوهر لم يرى مثيله. . أشجارها اليانعة تهدي الثمر لكل من اشتهى في حنو وتتصالح الكائنات بأمان وسلام . . تتقدم ببطء . . روعة المكان تخلب الألباب فلم تر عين ولم يسمع ذي سمع ولم يحلم الحالمون . .يتراءى قصر منيف عالي لم ير له من قبل مثيلا يتعجب من بهائه كل ذي بصر. . تتساءل "لأي ملك أو أمير هذا ". . ببطء تدنو وبلهفة تتقدم نحوه . . أصوات ملائكية تناديها "هانت . . أي فاتن . . اصبري . . " تناديها الطيور على الشجر " مرحبا سيدة القصر " و أطفال يلوحون لها من شرفات القصر "مرحبا سيدة القصر" تتعجب منهم . . تقترب أكثر من باب القصر يردها الخازن برفق "أي فاتن ليس بعد " تسأله بلهفة "ولم" يجيب بإشارة إلى الأفق البعيد "لم يمتلئ الكأس بعد . . " تنظر إلى حيث أشار فإذا طائر ضخم يسد الأفق بجناحيه . . مخيفا تكاد الجبال تنخلع من بشاعة منظره ، مفزعا يشيب من هوله الولدان وتعوي الكلاب لرؤيته يرقب كأساً يكاد يمتلئ " . . ترتجف تتسارع النبضات وتتعالى الأصوات تهتف " يا ست " يا ست " ترتفع الأصوات أكثر فأكثر حتى تفيق فاتن من حلمها المجهول على صوت صاخب يوقظها بنبرة غاضبة " أزعجتنا بهاتفك "
برغم الرجفة أجابت مسرعة
" نعم . .
انتهت الإجراءات . .
مسافة الطريق . .
إن شاء الله . .
مع السلامة "
انتبهت فاتن بعد المكالمة للرجل المنزعج من هاتفها الجالس في الكرسي المقابل وكيف بدا أنه يختلس النظرات إليها بوجه أسيف. .. . في حركة عصبية أخرجت المرآة من حقيبتها وأخذت تضبط إيقاع ما بقي من حواجبها . . قبل عدة سنوات كان الصدر نافرا والشعر كليل العاشقين مسترسلا . . لم يبق في القرية شاعر إلا تغنى بحسنها ولا خاطب إلا اصطف كغيره خاطباً ودها . . ترمق الرجل بنظرات أنثى غاضبة و تلحظ شبها قريباً -يثير الأسى و الشجن - لرجل في ذات عشق كان عشقها وحلمها وفي ذات يوم كان حياتها و حبها الذي أثمر طفلين رائعين ثم غدا جرحا نازفاً لا يكفي العمر لكي يندمل
كان هو الحب الذي لا حب فيه سوى ارتشاف رحيق الجسد فإذا نضب الرحيق لم يبق من عشقه لمسه حانية ولم تسمع لحبه كلمه رقيقة ولو على سبيل المجاملة
فظا غليظ القلب هكذا تصورت الرجل الغاضب -تماما مثل شبيهه الذي غادر بلا رجعة كالرصاصة إذا أطلقت لا تعود . . قاطعا لرحمه بائعا لعشرة طيبة وأيام جميلة وليالي بيضاء كما الحلم كانت وكما الحلم انقضت . . ترمقه بنظرات قاسية فيشيح بوجهه أسفاً
بتباطؤ حزين يدخل القطار محطته الأخيرة
يسرع الرجل مهتما وتخطو فاتن . .بأنفاس منهكة . . بسيطة هي المسافة معدودة بدقائق ومحدودة بأنفاس
تمشي خطواتها على مهل حتى لا توقظ آلام الجسد الضعيف . . . . لدى بائع الورود توقف الرجل– تهمس لنفسها عجباً أيعرف هؤلاء القساة قيمة للورود . . يقتحم الرجل بوروده مرتع اليائسين من النجاة كما لو أنه جاء ليحارب يأسهم بوروده . . العجوز المتكئ على عصاه يستقبل فاتن باحتضان أبوي والأوراق في يده. .
بدا المشهد شاعريا لعاشقين التقيا بعد فراق . . تتشابك الأيدي وتلتقي عيون العاشقين وبصوت هامس يقول
- حبيبتي تأخرت عليكي
- ترد بصوت ضعيف لا يا روحي
تلتقط الشابة الورود . . وتوزع أغلبها على زميلات الكرب فتنشر بسمات باهتة على الشفاه الحزينة
وفي أرجاء الغرفة نسوة. . يبكين مواتهم قبل الموت و فوات النضارة و الحسن وصراخ بعضهن من الألم يقطع الأحشاء ويمزق نياط القلب يتخلل ذلك لعنات تنصب من أفواه غاضبة حانقة على مسئول سابق أدخل البلاد في غيمة سامة خبيثة وآخرين وأخريات يغادرون متكئين على أكتاف ذويهم
الورود تنشر عبيرها و تتعلق العيون ببهاء منظرها فيهدأ البكاء وتسكن النفوس لهذا المنظر الشاعري الرقيق والكل يدعو للعاشقين بنعمة الصحة وطول البقاء . . تنزوي فاتن في ركن من الغرفة . . تتعلق الروح و الذراع في قارورة . . وتتدافع القطرات لذراع فاتن المستسلمة لرغبات القدر . . لا يعرف أقطرات سم زعاف أو دواء شافي. . يغادر الرجل ومحبوبته معلقه بذراعه . . يسلم على الملتاعين وبأمنيات طيبة يودعهم فترد فاتن
- "مع السلامة يا طيب يا أمير"
تعود كآبة المشهد لتتغلب على شاعرية اللقاء . . وعند اقتراب امتلاء الكأس غيوم تحيط بالبصر فتفتح له أفق السماء
الطائر المخيف يقترب يحاصرها شيئا فشيئا ويسد الأفق. .. . الكلاب تعوي . . ينفتح الباب الضيق وعند حافة الدنيا يبدأ عالم آخر
الأب ينادي "فاتن يا ابنتي"
ترد "أولادي"
صوت مهيب ينادي من السماء "الله"
. . يمتلئ الكأس فيلتقطه الطائر ويعبر به الباب الضيق فيغلق ...........وينفتح الباب إلى الملكوت
إرسال تعليق