بقلم: أحمد عبد المعطي حجازي
حين نقول إن المصريين علي اختلاف عقائدهم ومذاهبهم الدينية شعب واحد, وإنهم عاشوا منذ آلاف السنين معا مترابطين متكاتفين نقول الحق ولا نتجاوزه. وحيث نقول إن الفتنة الطائفية في مصر واقع ملموس ومشكلة خطيرة تنام أحيانا وتستيقظ أحيانا أخري, وتشتعل وتتفجر نقول الحق أيضا ولا نتجاوزه.
وقد احتفلت مصر كلها بعيد الميلاد المجيد, كما تفعل كل عام, المسلمون في الكاتدرائية لم يكونوا أقل عددا من المسيحيين, ولا شك أن الذين كانوا يحبون أن يشاركوا في الاحتفال من المسلمين ولم يتمكنوا لسبب أو لآخر أكثر بكثير من الذين شاركوا فيه, كما أن الذين أتيح لهم أن يشاركوا في الاحتفال, وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية, لم يكونوا يمثلون أنفسهم فحسب, وإنما كانوا يمثلون مصر كلها, فضلا عن أن المشاركة التي أتحدث عنها, مشاركة المسلمين للمسيحيين والمسيحيين للمسلمين, لا تقتصر علي الأعياد والمناسبات وإنما تتحقق كل يوم في الحياة العملية, في الحقول والمصانع, والمكاتب والشوارع لكن هؤلاء المصريين الذين نراهم متآخين متعاطفين كأنهم عائلة واحدة هم أنفسهم الذين نراهم أو نري منهم من ينقلب علي نفسه من أخ شقيق إلي عدو لدود, بعضهم يسيء الظن في بعض, ويعتدي من يستطيع علي من لا يستطيع.
ونحن نقع في خطأ جسيم ونعجز عن المواجهة حيث نري هذا الواقع من وجه ولا نري الوجه الآخر, ونحن نفضل بالطبع أن نري الوجه الطيب الحسن, لأنه الوجه الغالب الذي يطالعنا معظم الوقت, ونهمل الوجه الآخر أو نتجاهله وننفيه, لأنه وجه قبيح مزعج يثير القلق والخوف, ولأنه لا يظهر لنا إلا حين تقع الحادثة وتفرض نفسها علينا فنلتفت لها بنصف اهتمام, ثم لا تكاد الأمور تهدأ بعض الشيء حتي نخرج من الخصام إلي الوئام كأن شيئا لم يحدث, أو كأنه حادث غريب لا أصل له عندنا وقد فوجئنا به فلم نتوقعه ولم نمنعه من أن يقع, وليس أمامنا إلا أن نستنكره ونعود إلي ما كنا فيه من قبل, وهكذا نكذب علي الواقع وما نكذب في الواقع إلا علي أنفسنا, وما نفعل إلا أن نخدعها ونضللها ونجردها من الوعي الذي تحتمي به وتواجه ما سوف يحدث لا محالة من جديد لأن أسبابه ودوافعه قائمة, ولأنها تفعل فعلها في السر أكثر مما تفعلها في العلن, لأنها تنشط في السر دون مراقبة ودون مقاومة, ثم تنتهز أول فرصة لتعلن عن نفسها وإذا الحادث مروع والخسائر فادحة, ونظل مع ذلك عاجزين عن الفهم وعن المواجهة, لأننا في حاجة إلي هذه الطمأنينة الخادعة التي نجدها في إنكار الواقع وتبادل الزيارات والتقاط صور المتعانقين المبتسمين الذين لا نشك في أنهم إخوة أشقاء, كما لا نشك في أن بينهم دماء سالت, وضحايا سقطت, ومحلات سرقت, وكنائس أحرقت, وعائلات هجرت مرغمة علي الهجرة, كما حدث في العامرية أو واجدة في الهجرة ملاذا مما يمكن أن تتعرض له.
كيف نفسر هذا التناقض؟ وكيف نفهم هذا الواقع؟ التفسير سهل للغاية.. فنحن بالروابط الموضوعية التي تشد بعضنا إلي بعض جماعة واحدة وباستطاعتي أيضا أن أقول إننا عائلة واحدة, فالدم الذي يجري في عروقي هو الدم الذي يجري في عروق البابا تواضروس, لكننا بالثقافة السائدة جماعتان. نحن بالأرض التي نشأنا عليها, وبالتاريخ الذي عشناه, والثقافة التي توارثناها, والمصالح التي تفرض علينا أن نتعاون وأن نجتمع, لأنها تتحقق بجهودنا المشتركة وتلبي حاجاتنا المشتركة.. نحن بهذه الأواصر كلها جماعة واحدة, لكن ثقافتنا السائدة.
وهي ثقافة موروثة من عصور الظلام, لا تنظر لهذه الحياة المشتركة ولا تصنفنا علي أساس المواطنة التي تجعلنا جماعة واحدة, وإنما تصنفنا علي أساس الديانات التي تميز بيننا وتجعلنا جماعات مختلفة ومن هنا يقع التناقض ويصطدم الواقع الحي المتجدد بتصورنا الموروث له. الواقع الذي نعيشه غير الواقع الذي نتصوره نحن في الواقع أمة واحدة, أما في الدين فنحن علي الأقل أمتان. هذا التناقض لم يكن موجودا في العصور الماضية التي كان الدين فيها هو كل شيء في حياة الناس فهو السياسة, والاقتصاد, وهو العلم والطب والفلك, وهو الدولة التي كانت إمبراطورية دينية جامعة تضم المنتمين لعقيدتها وهم أجناس وقوميات ولغات شتي لا يجمع بينهم إلا الدين, وقد تغير هذا الوضع في العصور الحديثة التي أصبحت فيها الدولة وطنية تستند للثقافة والتاريخ واللغة والمصالح التي تجمع بين المواطنين علي اختلاف عقائدهم الدينية.
ومع أن مصر تحررت من الخلافة العثمانية التي كانت تابعة لها وأصبحت دولة وطنية مستقلة, فالثقافة الوطنية لم تتأصل في مصر بالقدر الكافي, ومازال الكثيرون يخلطون بين الدين والدولة بسبب انتشار الأمية, واستبداد السلطة, وانفراد جماعات الإسلام السياسي بالجماهير التي تعيش الحاضر بثقافة الماضي, هذه الثقافة التي تطالبنا بالشيء ونقيضه. أن نتجاور دون أن نتفاهم, وأن نجتمع دون أن نتفق ونتشارك دون أن نتساوي وننتمي للوطن ونظل مع هذا مللا مختلفة وطوائف شتي.
كيف نتعامل إذن بعضنا مع بعضنا الآخر؟ بمنطق السياسة أم بمنطق الدين؟ حين نتحدث مثلا عن الأكثرية أو عن الأقلية فأيهما نقصد؟ الأكثرية أو الأقلية الحزبية كما نفهم من هذه العبارات حين يتداولها الناس في الدول الحديثة؟ أم الأكثرية الدينية والأقلية الدينية كما نفهم منها حين نتداولها عندنا؟ وهل يستوي المنتمي لدين الأغلبية مع المنتمي لدين الأقلية, كما تنص علي ذلك دساتير الدول الديمقراطية أم أنهما لا يستويان؟ أن يستويان في مادة ولا يستويان في مادة أخري, كما نصت علي ذلك دساتيرنا نحن؟
دساتيرنا تنص علي أن الإسلام دين الدولة, وهي عبارة غامضة بصورة تسمح لكل طرف أن يفسرها علي هواه. الإسلام دين الدولة, أي دين غالبية المواطنين فله قيمة رمزية تعترف بها الدولة؟ أم أن هذا النص يفرض علي الدولة التزامات تتعارض مع مبدأ المساواة وعدم التمييز بين المواطنين كأن يشترط في رئيس الدولة أن يكون مسلما, وإذن فهو يسقط مبدأ المساواة ويحرم غير المسلمين من التمتع بهذا الحق خاصة في هذه الأيام التي أصبح فيها الفقه الإسلامي السائد نقلا خالصا من فقه القدماء خالصا بعيدا عن روح العصر وحاجاته, أي بعيدا عن الواقع الذي نعيشه وعن التحديات التي نواجهها.
نقلا عن صحيفة الاهرام
حين نقول إن المصريين علي اختلاف عقائدهم ومذاهبهم الدينية شعب واحد, وإنهم عاشوا منذ آلاف السنين معا مترابطين متكاتفين نقول الحق ولا نتجاوزه. وحيث نقول إن الفتنة الطائفية في مصر واقع ملموس ومشكلة خطيرة تنام أحيانا وتستيقظ أحيانا أخري, وتشتعل وتتفجر نقول الحق أيضا ولا نتجاوزه.
وقد احتفلت مصر كلها بعيد الميلاد المجيد, كما تفعل كل عام, المسلمون في الكاتدرائية لم يكونوا أقل عددا من المسيحيين, ولا شك أن الذين كانوا يحبون أن يشاركوا في الاحتفال من المسلمين ولم يتمكنوا لسبب أو لآخر أكثر بكثير من الذين شاركوا فيه, كما أن الذين أتيح لهم أن يشاركوا في الاحتفال, وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية, لم يكونوا يمثلون أنفسهم فحسب, وإنما كانوا يمثلون مصر كلها, فضلا عن أن المشاركة التي أتحدث عنها, مشاركة المسلمين للمسيحيين والمسيحيين للمسلمين, لا تقتصر علي الأعياد والمناسبات وإنما تتحقق كل يوم في الحياة العملية, في الحقول والمصانع, والمكاتب والشوارع لكن هؤلاء المصريين الذين نراهم متآخين متعاطفين كأنهم عائلة واحدة هم أنفسهم الذين نراهم أو نري منهم من ينقلب علي نفسه من أخ شقيق إلي عدو لدود, بعضهم يسيء الظن في بعض, ويعتدي من يستطيع علي من لا يستطيع.
ونحن نقع في خطأ جسيم ونعجز عن المواجهة حيث نري هذا الواقع من وجه ولا نري الوجه الآخر, ونحن نفضل بالطبع أن نري الوجه الطيب الحسن, لأنه الوجه الغالب الذي يطالعنا معظم الوقت, ونهمل الوجه الآخر أو نتجاهله وننفيه, لأنه وجه قبيح مزعج يثير القلق والخوف, ولأنه لا يظهر لنا إلا حين تقع الحادثة وتفرض نفسها علينا فنلتفت لها بنصف اهتمام, ثم لا تكاد الأمور تهدأ بعض الشيء حتي نخرج من الخصام إلي الوئام كأن شيئا لم يحدث, أو كأنه حادث غريب لا أصل له عندنا وقد فوجئنا به فلم نتوقعه ولم نمنعه من أن يقع, وليس أمامنا إلا أن نستنكره ونعود إلي ما كنا فيه من قبل, وهكذا نكذب علي الواقع وما نكذب في الواقع إلا علي أنفسنا, وما نفعل إلا أن نخدعها ونضللها ونجردها من الوعي الذي تحتمي به وتواجه ما سوف يحدث لا محالة من جديد لأن أسبابه ودوافعه قائمة, ولأنها تفعل فعلها في السر أكثر مما تفعلها في العلن, لأنها تنشط في السر دون مراقبة ودون مقاومة, ثم تنتهز أول فرصة لتعلن عن نفسها وإذا الحادث مروع والخسائر فادحة, ونظل مع ذلك عاجزين عن الفهم وعن المواجهة, لأننا في حاجة إلي هذه الطمأنينة الخادعة التي نجدها في إنكار الواقع وتبادل الزيارات والتقاط صور المتعانقين المبتسمين الذين لا نشك في أنهم إخوة أشقاء, كما لا نشك في أن بينهم دماء سالت, وضحايا سقطت, ومحلات سرقت, وكنائس أحرقت, وعائلات هجرت مرغمة علي الهجرة, كما حدث في العامرية أو واجدة في الهجرة ملاذا مما يمكن أن تتعرض له.
كيف نفسر هذا التناقض؟ وكيف نفهم هذا الواقع؟ التفسير سهل للغاية.. فنحن بالروابط الموضوعية التي تشد بعضنا إلي بعض جماعة واحدة وباستطاعتي أيضا أن أقول إننا عائلة واحدة, فالدم الذي يجري في عروقي هو الدم الذي يجري في عروق البابا تواضروس, لكننا بالثقافة السائدة جماعتان. نحن بالأرض التي نشأنا عليها, وبالتاريخ الذي عشناه, والثقافة التي توارثناها, والمصالح التي تفرض علينا أن نتعاون وأن نجتمع, لأنها تتحقق بجهودنا المشتركة وتلبي حاجاتنا المشتركة.. نحن بهذه الأواصر كلها جماعة واحدة, لكن ثقافتنا السائدة.
وهي ثقافة موروثة من عصور الظلام, لا تنظر لهذه الحياة المشتركة ولا تصنفنا علي أساس المواطنة التي تجعلنا جماعة واحدة, وإنما تصنفنا علي أساس الديانات التي تميز بيننا وتجعلنا جماعات مختلفة ومن هنا يقع التناقض ويصطدم الواقع الحي المتجدد بتصورنا الموروث له. الواقع الذي نعيشه غير الواقع الذي نتصوره نحن في الواقع أمة واحدة, أما في الدين فنحن علي الأقل أمتان. هذا التناقض لم يكن موجودا في العصور الماضية التي كان الدين فيها هو كل شيء في حياة الناس فهو السياسة, والاقتصاد, وهو العلم والطب والفلك, وهو الدولة التي كانت إمبراطورية دينية جامعة تضم المنتمين لعقيدتها وهم أجناس وقوميات ولغات شتي لا يجمع بينهم إلا الدين, وقد تغير هذا الوضع في العصور الحديثة التي أصبحت فيها الدولة وطنية تستند للثقافة والتاريخ واللغة والمصالح التي تجمع بين المواطنين علي اختلاف عقائدهم الدينية.
ومع أن مصر تحررت من الخلافة العثمانية التي كانت تابعة لها وأصبحت دولة وطنية مستقلة, فالثقافة الوطنية لم تتأصل في مصر بالقدر الكافي, ومازال الكثيرون يخلطون بين الدين والدولة بسبب انتشار الأمية, واستبداد السلطة, وانفراد جماعات الإسلام السياسي بالجماهير التي تعيش الحاضر بثقافة الماضي, هذه الثقافة التي تطالبنا بالشيء ونقيضه. أن نتجاور دون أن نتفاهم, وأن نجتمع دون أن نتفق ونتشارك دون أن نتساوي وننتمي للوطن ونظل مع هذا مللا مختلفة وطوائف شتي.
كيف نتعامل إذن بعضنا مع بعضنا الآخر؟ بمنطق السياسة أم بمنطق الدين؟ حين نتحدث مثلا عن الأكثرية أو عن الأقلية فأيهما نقصد؟ الأكثرية أو الأقلية الحزبية كما نفهم من هذه العبارات حين يتداولها الناس في الدول الحديثة؟ أم الأكثرية الدينية والأقلية الدينية كما نفهم منها حين نتداولها عندنا؟ وهل يستوي المنتمي لدين الأغلبية مع المنتمي لدين الأقلية, كما تنص علي ذلك دساتير الدول الديمقراطية أم أنهما لا يستويان؟ أن يستويان في مادة ولا يستويان في مادة أخري, كما نصت علي ذلك دساتيرنا نحن؟
دساتيرنا تنص علي أن الإسلام دين الدولة, وهي عبارة غامضة بصورة تسمح لكل طرف أن يفسرها علي هواه. الإسلام دين الدولة, أي دين غالبية المواطنين فله قيمة رمزية تعترف بها الدولة؟ أم أن هذا النص يفرض علي الدولة التزامات تتعارض مع مبدأ المساواة وعدم التمييز بين المواطنين كأن يشترط في رئيس الدولة أن يكون مسلما, وإذن فهو يسقط مبدأ المساواة ويحرم غير المسلمين من التمتع بهذا الحق خاصة في هذه الأيام التي أصبح فيها الفقه الإسلامي السائد نقلا خالصا من فقه القدماء خالصا بعيدا عن روح العصر وحاجاته, أي بعيدا عن الواقع الذي نعيشه وعن التحديات التي نواجهها.
نقلا عن صحيفة الاهرام
إرسال تعليق