■ من يحلل طبائع وسلوك الإنسان العربي يستنتج وبدون تردد أنه يعاني من أزمة نفسية دفينة وخانقة.. أزمة ناتجة عن كثرة الهموم المرتبطة بسوء الوضع السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي والديني. أزمة لا تقل حده وتأثيراً عن مختلف الأمراض الجسدية التي يعاني منها يومياً، والتي من جرائها يتوجه بين الحين والآخر لتلقي العلاج في شتي المراكز الطبية. بغض النظر عن الأسباب العضوية الكامنة خلف هذا النوع من الأمراض، حتماً وحسب مختلف المختصين ما يعاني منه العربي له علاقة مباشر بتدهور الوضع في القضايا المتعلقة بالأمور العامة. كيف لا يكون الحال بهذا الشكل وألا تكون هنالك علاقة ارتباط بين ما يحدث لجسده وعقله من جهة، وبين ما يدور من حوله من جهة أخرى، إذا كان هذا المواطن، خاصة المنتمي إلى الطبقة الوسطى والسفلى، واقعا يومياً تحت طائلة الظلم السياسي، الفقر الاقتصادي، القهر الاجتماعي والتعسف الديني. من المستحيل أن لا يتأثر نفسياً وجسدياً جراء كل هذا.
حين يتأمل المراقب حال الغالبية العظمى من مجتمعات هذه الأمة يستغرب كيف يتحمل أبناؤها شقاء الحياة وكثرة التعقيدات والمشاكل التي تواجههم صباحاً ومساء. فعلاً في هذا العالم هم الأكثر هماً وغماً وقهراً، مقارنة بالغير. لا ينافسهم ولا يحسدهم في ذلك أي مخلوق آخر على وجه الأرض. وهم وحسب كافة المؤشرات، الأدنى مرتبة وحظاً على مستوى الطـــمأنينة والسعادة.. والأقل انتحاراً بحكم كون ذلك محرم شرعاً. من شدة ما يعانيه العربي من الهموم تراه إما ضائعاً وصامتاً أو كئيباً ومعصباً، بل ونتيجة شدة وطأة ما يحدث له تراه دائماً متردداً، فاقداً للتوازن والصواب ودائم الحيرة والقلــــق، لذا حين يريد أن يعبر عما يجول بخاطره تراه ينفر، يلعن ويصـــرخ بأعلى صوته. هذه هي الطريقة الوحيدة الباقية له كي لا يتمــزق وينفجر من الداخل. وللعلم، بعض ما تبقى من حـــياء وكرامة يمنع الكثير منهم من أفراغ الهم المتراكم فوق الرأس بشكل علني وصريح. في معظم الأوقات أمثال هؤلاء يفضلون العيش بكبت باطني قبل أن يكشفوا أسرار الهم والغم الذي يعانون منه.
هنالك من يظن أن الجسد هو أصل الداء والدواء، ويتجاهل أن العقل هو أولاً وأخيراً مصدر الشقاء والشفاء من كل وجع وبلاء. لذلك تراه يتوجه أكثر إلى المراكز الصحية العامة منها إلى العيادات النفسية. المشكلة الحقيقة تكمن في عدم تعوده على التوجه لعيادات الطب النفسي، والظن أن ما يعاني منه مرتبط فقط بأمراض جسدية علاجها عند المختصين بها. يتصرف بهذا الشـــكل لأن هنالك من يجعله يعتقد بأن ذهابه إلى مثل هذه العيادات هو درب من دروب الجنون، إن لم يكن الجنون بحد ذاته. مثل هذا الاعتــقاد ليس غريبا، فالعامة تعتبر المصحات النفسية مجرد إصلاحية أو مُجمع للمجانين، وأن كل من يتردد عليها ليس سوى مختل عقلياً ومهوسا نفسياً. نتيجة هذا النوع من الثقافة نادراً ما تجد في الشوارع يافطات تحدد أماكن عيادات الطب النفسي.
رغم شدة الاضطرابات النفسية التي يعاني منها المواطن العربي، أكان هذا على مستوى العواطف، الأحاسيس، الأوهام، التخيلات، الانفصام، الغثيان، التشرذم، الحاجة والضيق، فان معظم المختصين في التحليل والعلاج النفسي يزاولون مهنتهم بدرجة أقل بكثير من زملائهم الآخرين. الغريب في مجتمع تخيم عليه الصراعات الدائمة والتناقضات الشديدة، هو جهله وعدم اكتراثه بقيمة الأطباء النفسانيين. والأسوأ هو أن هنالك من ينظر لهم بكثير من السخرية والاستهزاء. نتيجة هذا الوضع بعض من المختصين بهذا المجال يفضلون مزاولة مهن بعيده عن مجالهم الساحر والمغناطيسى. وفي أفضل الأحوال تراهم يعملون كموظفين أو مستشارين بالمدارس أو في المراكز الموجودة على هامش المجتمع، بل نتيجة عدم اللامبالاة العامة، هنالك من يندفع للعمل في مجالات اخرى بعيدة عن اختصاصاتهم.. حتى الجمعيات المختصة بالطب النفسي، التي رغم أهميتها وقداسة المهنة التي ترمز لها، ليس لها قوة وجود شبيهة بالتي تملكها النقابات العمالية، الإعلامية أو القانونية.
لو انتبه المسؤولون عن الشأن العام فعلاً للحالة النفسية المزرية التي وصل لها الكثير من أبناء هذه الأمة، ومعظمهم فاقدون لمجمل الاحتياجات، المقدرات، الحقوق والمزايا الأساسية، لاكتشفوا أن سر علاج هؤلاء، وبالتالي قضايا المجتمع، يكمن أولاً في إشباع رغباتهم واحتياجاتهم الضرورية، وثانياً في تقديم الخدمات الطبية النفسية المجانية التي تساعدهم على تـجـــاوز ما عانوا ويعانون منه.
في الدول المتقدمة، الطلب على هذه العيادات يتزايد بزيادة تفشي الملل المنبثق عن الرخاء التام في كافة ظروف الحياة السياسية، الاجتماعية، الدينية والاقتصادية.
ما وصل إليه الإنسان العربي من غم وهم ومن إرهاق وضيق يتطلب زيادة مستوى الحذر والانتباه والمزيد من الوقاية والمتابعة النفسية، مثل ما يحدث مع باقي الأمراض العضوية المتفشية التي عوارضها تظهر وتشخص بشكل دقيق. الكل يعلم أن الشخص الذي يعاني من صعوبات نفسية لا يعترف بتاتاً بذلك، ويتجنب قدر المستطاع الربط بينها وبين ما يحدث من حوله وإمكانية أن يكون لكل ذلك تأثير على صحته البدنية وسعادته اليومية. كل ما يهمه هو اخفاء الباطن حتى يظهر أمام الغير بمظهر المتماسك، وألا يلاحظ عليه أحد سمات التعب، الضعف وعدم التوازن في القول والفعل. فعلاً هنالك من يحرص على عدم الافصاح عما يعانيه من اضطرابات نفسية، رغم علمه التام بأنها غير إرادية وإنما ناجمة عن تفاقم سوء الأوضاع العامة والخاصة.
هذا الوضع يمكن أن يصيب أي إنسان. أكان هذا ذا مكانة رفيعة ومنصب مرموق أو مجرد شخص عادي كادح، بل يمكن أن يتأثر به من يحتلون مراكز القيادة بشكل أكبر من أولئك الذين لا يملكون زمام الأمور ولا يديرون مجرى الأحداث داخل المجتمع. هذا ما يعني أن حاجة هؤلاء إلى عناية نفسية دائمة أكثر من باقي العامة. يحتاجون مثل هذه الرعاية لعلاج أمراض مزمنة مثل التسلط وحب السلطة والجاه، التي لها علاقة مباشرة بالتزايد النسبي في وتيرة العجرفة والطغيان. أما الإنسان العادي، الذي يعيش فى مجتمع يدار بهذا الشكل ومن قبل هذا الصنف من البشر، فكل ما يحتاجه، بعد مختلف أنواع المتابعة النفسية، هو اشباع رغباته الأساسية في جو يسوده شيء من الهدوء، العدالة والرخاء. حال عدم وجود مثل ذلك من الممكن أن تكون العيادات النفسية المكان الأفضل والمناسب للاسترخاء ونيل قسط من الراحة.
٭ كاتب فلسطيني- إسبانيا
د. ناصر عبد الرحمن الفرا
القدس العربي
إرسال تعليق