بيروت - أحمد مغربي
يعاني العرب حاضراً تخلّفاً علميّاً ضخماً. يصعب التغاضي عن ذلك التخلّف، ولا تنجح في كسره التماعات كأحمد زويل (نوبل في الكيمياء) ومجدي يعقوب (كُرّم بلقب سير تقديراً لتفوّقه في جراحة القلب) وحسن الصبّاح (صاحب مجموعة براءات اختراع في أميركا) ومصطفى السيّد (المتألق في نانو الذهب) وغيرهم. ألا يسهل ملاحظة أن تلك الأسماء متّكئة على الغرب تماماً في انجازاتها؟
وفي رد فعل له طابع إنكاري، يحلو لبعضهم النوم في «عسل» الماضي، بداية من الماضي السحيق للحضارة الفرعونيّة، ووصولاً إلى النهوض العلمي للحضارة العربيّة - الإسلاميّة. الأرجح أن هذه الماضوية باتت عثرة في سبيل التقدّم في الزمن الراهن.
كمثال على ذلك، تشدّد بعض الدعاوى الدينية المتطرّّفة على معادلة تبسيطية وميكانيكية جامدة: ننهض في الحاضر بتكرار ما حصل في الماضي. وتغفل هذه النظرة عن أن المجتمعات وتطوّرها أمر سَيّال ومُتَغَيّر دائماً، كما لاحظ علماء الاجتماع دوماً منذ ابن خلدون (في القرن الثالث عشر) الذي يعتبره بعضهم آخر التماعة في اشراقة العلوم العربية ماضياً على العالم.
وربما تطلب الأمر علاقة حضارية مُركّبة ومُتَشابكة مع الماضي العربي- الإسلامي لكي نستفيد منه بطريقة مُجدية، بمعنى عدم البقاء في رد فعل يجتر الماضي من دون جدوى. ويبقى كثيرون أسرى نظرية قوامها مركزية الإسلام المتطرّفة في «مواجهة» مركزية الغرب، التي تنطلق (وذلك فارق أساسي) من واقع التقدّم العلمي الهائل للغرب في الزمن الحاضر.
إبحث عن عقدة النقص
يشي الحديث عن تخلّف الإنسان لأنه ينتمي الى قومية أو هوية معينة، بالكثير من العنصرية. واستطراداً، تجدر الإشارة إلى أن بعضاً من أساتذة المحافظين الجدد الذين أمسكوا بالسلطة في الولايات المتحدة، تمتلئ رؤوسهم بمثل تلك الأفكار.
ولعل المثال الأوضح يأتي من كتاب «العقل العربي» لرفائيل باتاي الذي يُدَرّس في عدد من الجامعات الأميركية المرموقة مثل برنستون وكولومبيا. ويرسم باتاي فيه صورة عن الثقافة العربية ارتكازاً إلى موقف عنصري يعتبرها بطبيعتها متخلّفة، ولا تنتج سوى متخلّفين، ما يُذكّر بالطريقة التي وصف فيها النازيون اليهود.
من المؤسف أن حفنة من مثقفين بارزين في الدول العربية، يقتفون خطى باتاي في نظرتهم إلى مسألة التخلّف عربيّاً، بدل محاولة إرساء نقد فكري منفتح حضاريّاً حيال تلك المسألة.
ثمة ما يجدر اضافته بالنسبة إلى النقاش الراهن عن حال العرب علميّاً، إذ يتكرّر كثيراً الحديث عن الديموقراطية، وبالتالي عن ضرورة تغيير النظام العربي الجامد، كشرط للعلم. والمفارقة، أن مسألة الديموقراطية في هذا المجال، ربما تجد من يرد عليها بالإشارة إلى «التجربة الصينية» التي يبدو فيها أن حزباً استبدادياً إلى حدّ كبير، استطاع انجاز تقدّم علمي لافت في بلد عريق في الحضارة، لكنه عانى طويلاً من الانتكاس في مساره العلمي.
في المقابل، دعمت الديموقراطية الهند في تقدّمها العلمي، وكذلك الحال في تايوان وهونغ كونغ وماليزيا وكوريا الجنوبية وغيرها. لكنها لم تفعل الأمر نفسه بالنسبة إلى كثير من البلدان الإفريقية، على سبيل المثال، التي لم تعنِ الديموقراطية فيها سوى فرض شروط «البنك الدولي» و»منظمة التجارة الدولية»!
ولا يُبرّر ذلك الاستبداد، لكنه يُظهر أن مسألة التقدّم العلمي، لأمة انتكس مسارها الحضاري وتتعايش مع غرب متقدّم وميّال للهيمنة، تمثل شأناً فائق التعقيد، بحيث لا تجدي المقاربات المُجزّأة فيها.
ثمة ميل راهناً الى تقديم الديموقراطية كعلاج لكل شيء، ما يدفع للخشية بأن كلاماً كهذا قد لا يساعد في علاج أي شيء! ليس بالديموقراطية وحدها، خصوصاً على الطريقة التي اقترحها طويلاً «المحافظون الجدد» في أميركا، يمكن حل المعضلة العلمية في العالم العربي. هناك ما هو أعمق. أليس من المهم التفكير بأن نقد الثقافة السائدة، يمثّل جزءاً من الجهد لصنع مناخ ثقافي ملائم للتقدّم العلمي؟
يمكن قول الشيء نفسه بالنسبة الى الدفاع عن الحريات الأساسية، بدءاً من حرية الأوطان ووصولاً إلى الحريات الفردية والعامة.
والأهم أن تتواءم فكرة التغيير مع المجتمع وبُناه وقواه وأوضاعه، خصوصاً أن تنهض من قلبه ولا تُفتعل بتقليد «النماذج»، من هنا وهناك. والأرجح أن افتعال التقدّم يزيد الابتعاد عنه.
دار الحياة
إرسال تعليق