بعد انقطاع عن الكتابة اشتقت للبلكونة و شعرت بوحشة للجلوس فيها مشعلاً سيجارتي، أحتسي قهوتي، فقررت العودة لمهجة فؤادي (البلكونة)، رجعت بذاكرتي لسنوات الطفولة و التي تزيد عن العقود الأربعة و تذكرت سنوات الدراسة الابتدائية بمدرسة شبرا الابتدائية القديمة بنين، و ثقافة العمل المتمثلة في معلمينا آنذاك.
فقررت سرد ذلك في سلسلة متتابعة، لست أدري أهي حسرة على الزمن الجميل أم أنها ستكون دافع يحتذى به في أيامنا القادمة علنا نفيق من سقم اللامبالاة و قلة الضمير التي أصابت المجتمع في مقتل و خيبت آماله و أضاعت كل شيء من القيم و الأخلاق و المثل العليا التي هي وقود تقدم الأمم. علنا نستطيع إصلاح العطب الذي أصاب منظومة حياتنا و نتج عنه ما أصبحنا فيه.
تذكرت الأستاذ (المستر في زمننا الأغبر هذا) و الذي كان يدعى عبد القادر. كان يأتينا في حصة إحتياطية حال غياب الأبلة (الميس) أنعام جورج زخاري المدرسة الأساسية لفصل ثانية أول، كان في حصص الإحتياط يعمل بكد و يبذل قصارى جهده على الرغم من أنها حصص إحتياطية لا طائل منها، سداد خانة بالمعنى الدقيق، كان يعلمنا الإعراب و نحن في الصف الثاني الإبتدائي، و يعلمنا حروف الجر و لا زلت أذكرها حتى الآن و بعدما جاوزت الخمسون بقليل بترتيبها و جرسها الموسيقي: (من ـ إلى ـ عن ـ على ـ في ـ الباء ـ الكاف ـ اللام). كان يستدعينا فرادى أمام لوحة الكتابة السوداء (السبورة) و يملي علينا كلمات و علينا كتابتها بدقة و بخط واضح يقرأ إن لم يكن جميلاً، و غير مسموح بأدنى خطأ، أنك تستدعي كل تركيزك حتى لا تخطىء فتنال من أطراف أنامله لسعة بعضلة مقعدتك يسميها (بوبوناية / ملبسة) كأنها لدغة من سرب نحل شارد فتشعرك بإنسكاب ماء النار شديد الحموضة عالي التركيز فوق مقعدتك. أسهل لك أن ترحم نفسك من ذلك و ترحم نفسك من ظهورك بهذا المنظر أمام زملاء الفصل فتكون مادة خصبة لتوبيخهم و لومهم. ليس أمامك سوى أن تعرف و تتعلم بكل جد و صرامة، و هو يعلمنا بكل ما أوتي من قوة و علم. كان يخرجنا في فناء المدرسة نصطف و يقول: "شد جسمك يا عسكري" يعلمنا الانضباط و يغرس فينا روح الاعتزاز بالنفس و يجعل مثلك الأعلى في ذلك جندي القوات المسلحة. يجعلنا نحلم بأن نكبر سريعاً لنكون جنوداً بالقوات المسلحة، يلهب فينا الحماس و الفخر. خلص حلمنا و أمانينا في الانتماء للمؤسسة العريقة بكل عزة و فخر.
الأستاذ عبد القادر رحمه الله إن كان رحل، و متعه الله بالصحة و العافية إن كان لازال يعيش في دنيانا هو واحد من طابور طويل عريض من المعلمين الذين أثروا حياتي بالقيم و الخلق و المبادىء و العلم النافع. و سأذكر ما أتذكره ممن علموني خلال سلسلة كتاباتي هذه بمشيئة الله إن كان في عمري بقية. كالعادة إلهي يا رب ما تتقطع وجدت رفيقة العمر أمامي تقول: هو أحنا مش كنا نسينا حكاية الزفت البلكونة دي؟ بتتهبب بتفكر في إيه تاني؟! رددت: بأفكر في الأستاذ عبد القادر. قالت: إبن حلال، و أنت نازل الشوغل ناولني في السبت كيسين فول و بجنيه طعمية من عبد القادر!
في البلكونة
إبراهيم غانم
إرسال تعليق