بقلم _ أحمد منتصر :
مع قيام ثورة يناير المخيبة للآمال. قلت إني قد انبهرت بها وكتبت وقتها كلامًا مثاليًا بطريقة برجماتية عبر مقالاتي في الحوار المتمدن وفي كتابي الإلكتروني (تأملات رمضانية). إلا أنه ومع الوقت صارت للنظرية البرجماتية أصالة من وجهة نظري وهي في رأيي حقيقة مثل الداروينية. فالأخيرة لا يمكن بأي حال دراسة الأحياء إلا بواسطتها وكذلك البرجماتية لا يمكن النجاح إلا بممارستها. كانت كل نظرياتي وأفكاري بشأن العمل والنجاح والمجتمع مجرد أفكار سطرتها بكتابي (ربنا يهديك). إلا أن الممارسة الكاملة لما ذكر بهذا الكتاب القيم لم تكن قد مورست بعد بالفعل.
ظللت طوال الشهور الأولى من الثورة قابعًا بالبيت أفكر وأكتب وأتابع الأخبار. كانت هناك متتالية فساد وغباء متكررة لا يخطئها أي عبقري مثلي. مثلا جاء الجيش في السلطة فهب الثوار هاتفين: يسقط يسقط حكم العسكر. يقوم بعض الثوار بدفع الإخوان الإرهابيين إلى السلطة ثم عندما يظهر جبروت الإخوان يهتف الثوار: يسقط يسقط حكم المرشد. ويرتمون في حضن العسكر مرة أخرى أو جبهة الإنقاذ التي لا تختلف كثيرًا عن العسكر والإخوان في أن الجميع عبارة عن نخبة قذرة من العواجيز الذين يغمطون حقوق الشباب.
وسط كل ذلك بلغت مصاريفي حدًا لا معقولا. فعلبة سجائر الروزمان بعد أن كانت قبل الثورة بخمسة جنيهات فقط قفزت إلى عشرة جنيهات أي الضعف!. حمدت الله أني لست متزوجًا بعد فهذا يعني أننا في زمن حرب حيث تزداد الأسعار الضعف والضعفين. اضطررت إلى الاتجاه لتدخين السجائر المهربة أو الشائعة باسم السجائر الصيني. طعمها سيء ولكنها توفر مئات الجنيهات كل شهر!. كما كنت من قبل الثورة قد بطلت النزول لوسط البلد في كايرو اللهم إلا لضرورة قصوى. ووفرت لي الشقة التي ابتاعها أبي في إسكندرية فسحة شبه مجانية بدلا من صرف مئات الجنيهات على رحلات اليوم الواحد لإسكندرية أو القاهرة أو المنصورة كل عام.
في خضم كل ذلك شهد سوق نشر الكتب في مصر كسادًا غير متوقع بالمرة. فمعرض الكتاب 2011 تم إلغاؤه وتكبد الناشرون آلاف الجنيهات بجانب حرق كتبهم الجديدة والتي يساهم بعضهم فيها بالفلوس. وبدا أن الكبار قد تزعزعت مكانتهم مثل الشروق وميريت وغيرهم بفعل الثورة وحانت الفرصة لظهور دور نشر جديدة بأساليب وإمكانات غير متوقعة. من حسن حظي أن العام الفائت للثورة 2010 كان به كساد اقتصادي كبير أيضًا نتيجة لتداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية على مصر وازدحام سوق النشر المصري في 2009 للغاية. ففي 2010 كانت قد أغلقت عدة دور نشر جديدة بسبب الإفلاس. وإفلاس دور النشر سوف نتحدث عنه بالتفصيل فيما بعد لأنه موضوع كبير ويتكرر كل عام.
عودة لـ2011.. استطاعت دار ليلى مواجهة شبح الإفلاس عبر مشروع (النشر لمن يستحق). أحزن كثيرًا عندما أرى كثيرًا من الكتاب الشباب يشكرون دار ليلى لأنها أتاحت الفرصة لهم بالنشر مع أن الذي حدث بالفعل أن هؤلاء الكتاب السذج قد أنقذوا الدار من الإفلاس والإغلاق وهم لا يعلمون. حققت ليلى مكاسب خيالية من وراء هذا المشروع. وتدور إشاعة أن عقد النشر مع الدار يقضي باسترجاع الكاتب لنقوده التي دفعها من أجل النشر مع هامش ربح طفيف وهذا لا يعني سوى أن الدار تأخذ هذا المشروع كجسر مرحلي ومؤقت حتى تمر فترة الكساد وتعود مرة أخرى للنشر مضمون الربح والمريح للشلة الصغيرة المنبثقة من المؤسسة العربية الحديثة ومشروع روايات مصرية للجيب.
وظهرت دور نشر جديدة كانت قد بدأت قبل الثورة ولكنها لمعت كثيرًا بعدها مثل المصري والرواق ودون وهذه الدور نجحت لأنها تقوم بعمل ما أفعله في طنطا بوك هاوس وهو ما سنشرحه بالتفصيل فيما بعد. وإن كان قد خفت نجم دار دون مع خفوت نجم دار اكتب والتي لم تغلق بسبب أن يحيى هاشم لا يدفع مليمًا من جيبه إلا نادرًا. حتى نشره مجانا لمشاهير الكتاب الشباب عبر طبعات ضئيلة 100 و200 نسخة فقط كان يسترجع ما ينفقه على النشر المجاني أضعافا عبر النشر للكتاب السذج الجدد الذين يدفع كل منهم آلاف الجنيهات لأن يحيى هاشم يعدهم بأرباح خيالية واسترجاع ما صرفوه وهو ما لا يحدث بالطبع.
نعود للذكريات.. فقد حدثني الصديق العزيز محمود عبد الرحيم عرفات بشأن إصدار روايته المتميزة (أياصوفيا). والتفاصيل التي سنذكرها الآن تم استئذانه في نشرها. في البدء رفضت دار نشر شباب بوكس لصاحبتها أماني التونسي نشر الرواية خوفا من حساسية موضوعها الذي يتعلق بفتح / غزو القسطنطينية ووجهات نظر شديدة التباين لأبطال الرواية سواء محمد الفاتح أو الراهبة المسيحية أو الجندي العربي في الجيش التركي أو غير ذلك. أما أنا فقد تحمست للغاية للرواية بسبب موضوعها المثير وهو ما سيكفل الدعاية اللازمة لطنطا بوك هاوس بسهولة. قمت بعمل التصحيح والتحرير اللغوي في شهر ونصف وقبضت من عرفات 500 جنيه لقاء ذلك. وأوصلت عرفات بالمصمم الشهير عبد الرحمن الصواف الذي قام بتصميم غلاف الرواية بـ500 جنيه وهو مبلغ كبير خاصة أنه يساروني شك أن الرسمة التي على الغلاف ليست من رسوم عبد الرحمن ولكن ما علينا فنحن فلاحين ويمكن النصب علينا بسهولة هع هع هع.
إلا أن النقلة الحقيقية والمثيرة في مسيرتي كناشر مبتدىء كانت بالتعرف بالأستاذ الفاضل أحمد الخطيب صاحب مطبعة الخطيب بدار السلام في كايرو. في البدء سألت الصديق إسلام مصباح مدير دار عرب بالمنصورة عن مطبعة ذات مستوى عال يمكنني عن طريقها تلافي مساوىء طباعة كتابي الورقي الأول (ربنا يهديك) والذي طبعته عند المطبعة الطنطاوية الكفتة التي يطبع فيها طارق عميرة مدير دار إنسان. أرشدني مصباح مشكورًا لمطبعة الخطيب الحبيبة فذهبنا أنا ومحمود عرفات إليها في يوم صيف حار.
كنت قد راسلت الأستاذ المطبعجي قبل ذلك عبر حسابه على الفيسبوك. كان ودودًا معي خاصة أن السوق كان يمر بفترة كساد خانقة كما أسلفت في 2011. وانتظرته أنا وعرفات في المطبعة والتي هي عبارة عن شقة صغيرة بدور أرضي في دار السلام حتى جاءنا مرحبًا. كان الكتاب المزمع طبعه يقع في 300 ص وعرض علينا الخطيب عينات الورق والغلاف والشرونك (أو الشرينك وهو التغليف بسلوفان) وقام بحساب تكلفة الطباعة والتي بلغت أكثر من 3000 جنيه لطباعة 500 نسخة فقط. قام عرفات مشكورًا بدفع المبلغ وكنت حتى لحظة الدفع هذه أشك أنه سيوافق على مثل هذه التكلفة العالية وفيما بعد عرفت كيف يثري أمثالي والخطيب ويحيى هاشم وغيرهم جراء ناس حلوين معندهمش مانع يدفعوا ألوفات مثل صديقي محمود هع هع هع.
تكلف نشر رواية أياصوفيا أكثر من 5000 جنيه ولكن عرفات كان صبورًا للغاية معي على الرغم من التنسيق الداخلي السيء الذي كنت ما زلت أتعلمه إلا أني استطعت تزبيطه في بقية عملية النشر بصورة أعتقد أنها أرضته. اقترحت عليه عرض الكتاب بالمكتبات بسعر 10 جنيهات. كان السعر قاتلا بالطبع وينفي أي فرصة للربح إن كان هناك ربح بالأساس من مبيعات الكتب في مصر. ولكني عرضت على عرفات وجهة نظري وهي أن عائدات مبيعات كتابي الأول ربنا يهديك لم تتعد المائتي جنيه على الرغم من أنه تكلف أكثر من 2000 جنيه!. كما حذرته من إغراق السوق بنسخ الكتاب فبقاء الطبعة معنا أطول وقت ممكن أفضل من تضييعها هباء منثورًا على المكتبات والتي أغلبها ينصب علينا أو لا يستطيع إيصال الكتاب للقراء. وبالجملة فإن عرفات اقتنع برضاه أو رغمًا عنه بما أقول وتم إصدار الكتاب من قبيل الدعاية فالطباعة ممتازة والموضوع مثير وهناك تصحيح لغوي ممتاز وغلاف جيد وتوزيع معقول. أعتقد أنها كانت تجربة جيدة لعرفات ولم يندم عليها.
بدأت في ممارسة البرجماتية بصورة فعلية كما ذكرت سالفا. لم يعد يمكن بسهولة النصب عليّ كما كان يحدث بالسابق. وتم توسعة مساحة تنفيذ الفكرة البرجماتية فلم تعد السعي وراء مصلحتي بس ولكن صارت السعي لمصلحة كل من معي أو السعي لمصلحتي بصورة تفيد كل من معي كذلك. المصلحة للجميع يعني أو المصلحة الجماعية. ولكن ظلت مشكلة الفقر والدخل الشهري تؤرقني. قام عرفات مشكورًا بإعطائي 500 جنيه أخرى من باب أنني لم أنصب عليه كما يفعل الكثيرون. كنت في حيرة من أمري هل أنصب على الناس وأكون معذورًا لأنني فقير؟ أو أواصل السعي لإيجاد طريقة ولو وسطى للكسب الحلال وعدم النصب على الكتاب الغلابة؟.
كانت تجربة رواية أياصوفيا مع محمود عرفات من أنجح ما يكون. لا تفكر بالمكسب فقد ذهب أدراج الرايح ولكن فكر في العائد المعنوي وهو المستمر. فالرواية التي طبعت بورق كريمة أصفر فاخر وتقع في 300 ص وذات غلاف وطباعة أنيقين كانت خير دعاية للدار والكاتب والناشر وحتى لمصمم الغلاف وللمطبعة. أتذكر دهشة المكتبات في كايرو عندما كنت أدخل عليها بالرواية وأترك نسخا للعرض بعشرة جنيهات فقط للنسخة الواحدة. أما مكتبات الأقاليم حتى النصابة منها فقد كان وقع الأمر شديدًا عليها. قام أحمد الأبيض كالعادة ببيع الكتاب بضعفي سعره. وفغر كافة الناشرين الذين أهديتهم نسخة من الرواية أفواههم ذاهلين من جودة الطباعة. كانوا يسألونني كيف فعلتها؟.. والهاء هنا عائدة على سؤال أكثر خبثا هو: كيف استطعت عدم النصب على هذا الزبون؟ باعتبار أن العملية لديهم أن كل كاتب شاب هو زبون يدفع فلوس واطبع له طباعة سيئة أو لا تطبع من الأساس وشوف غيره.
بعد ذلك واصلت عدم النصب في الكتب الأخرى التي جاءت على حس أياصوفيا مثل الثدي المر لمينا عزت عازر من إسكندرية وثورة شعب مصر لطارق زكريا من طنطا ومسيري أجيلك لأحمد الصفتي من طنطا كذلك حتى كدت أفلس أخيرًا ولكن جاء الفرج من عند ربنا وصارت طنطا بوك هاوس دارًا متوسطة بعد أن ظلت عامين دارًا صغيرة ولكن..
إرسال تعليق