حلت أمس الذكرى السادسة والستون لنكبة ،1948 وفي أي ذكرى في حياة الفرد والجماعة يقف الكثيرون لمراجعة ما كان، واستعراض ما هو كائن، واستشراف احتمالات ما سيكون . والصراع الذي فرض على شعب فلسطين وأمته العربية، وثيق الصلة بظروف الواقع العربي والإقليمي والدولي، وما يستجد على الصعد الثلاثة من متغيرات ذات تأثير في قدرات وقناعات طرفي الصراع وجمهورهما، خاصة قدرة وكفاءة صناع قرارهما على القراءة الموضوعية لتلك المتغيرات والاستفادة منها في تطوير أدائه في إدارة الصراع بما يعزز قدرته على تحقيق مصالحه وطموحاته، فماذا عن ماضي الصراع العربي الصهيوني وحاضره ومستقبله؟
بالعودة لما كان في خريف ،1948 يتضح أن الحرب حسمت لمصلحة الصهاينة، إذ التقى حينها المعسكران الرأسمالي والشيوعي على دعمهم بالسلاح والخبراء العسكريين . فيما كانت الأنظمة العربية فاقدة استقلالية الإرادة والإمكانات العسكرية . بدليل أنه في كل المعارك كانت القوات الصهيونية أكثر عدداً، وأفضل تدريباً وتسليحاً، وتتميز بوحدة القيادة السياسية والعسكرية، ما جعل النكبة نتاجاً طبيعياً لتمايز الواقعين العربي والصهيوني . ولم تتمثل النكبة حينها فقط باحتلال 78% من أرض فلسطين واقتلاع 61% من مواطنيها العرب، وإنما أيضاً بتمزيق وحدة المجتمع الفلسطيني، وتدمير إمكاناته الاقتصادية، كما بغلبة ثقافة الهزيمة والشعور بالإحباط على المستوى العربي العام . وبالمقابل بدا التجمع الاستيطاني الصهيوني موحداً ومطمئناً إلى الحاضر وشديد التفاؤل بامتلاكه القاعدة القادرة على تمكينه من تحقيق طموحه التاريخي بمد نفوذه بين الفرات والنيل . فيما بدا دوره الوظيفي في الإقليم العربي مطلوباً من المعسكرين .
غير أن النكبة العربية والانتصار الصهيوني لم يكونا كل ما في المشهد، وإن سلط عليهما الإعلام الدولي الأضواء بكثافة، لتأصيل الانتصار الصهيوني والهزيمة العربية . فيما كثف الظلال على الامتناع العربي، الرسمي والشعبي، عن الصلح مع الصهاينة على أساس الأمر الواقع . كما على فشل الإدارة الأمريكية في سعيها إلى توطين اللاجئين وإسقاط حلمهم بالتحرير والعودة . فضلاً عن تقليل الكثيرين، عرباً وغير عرب، من أهمية تنامي ثقافة المقاومة ما وسع إطار القناعة الشعبية بأن شعب فلسطين وشعوب أمته العربية في صراع ممتد مع الإمبريالية وأداتها الصهيونية، في أرض عرفت تاريخياً بقدرة شعوبها الفذة على دحر الغزاة .
ولما صمدت إرادة الممانعة خلال العقدين التاليين للنكبة، وبدت الأمة العربية على عتبة امتلاك المبادرة الاستراتيجية في المنطقة، كان عدوان 1967 هو الحل الأمريكي الصهيوني . ولكن انتفاضة جماهير مصر وأمتها العربية في 9 يونيو/ حزيران رافضة تنحي عبدالناصر، ومصرة على مواصلة الصراع بقيادته، لم تجهض فقط أحلام الاستسلام التي راودت صناع القرار الأمريكي و"الإسرائيلي" فقط، وإنما وضعت مصر أيضاً على عتبة حرب الاستنزاف المجيدة التي كانت بإقرار القادة الصهاينة أول حرب تخسرها "إسرائيل" .
وحين تقرأ أحداث السنوات الست والستين الماضية يتضح بجلاء أن لا تداعيات نكبة ،1948 ولا مفاعيل نكسة ،1967 ولا انعكاسات ردّة السادات سنة ،1971 أدت إلى استلاب إرادة الممانعة والمقاومة المتجذرة في الثقافة العربية الإسلامية . بل شكلت كل منها تحدياً استدعى تحولات جذرية في الواقع السياسي والاجتماعي العربي، قطرياً وقومياً . وكان من أبرز نتائجها صيرورة المقاومة، بكل أشكالها، الرقم الصعب في معادلة الصراع التاريخي، ووقوفها على عتبة امتلاك المبادرة الاستراتيجية فيه، وصنع حقائق على الأرض تنطوي على مؤشرات واعدة . ومنها على سبيل المثال لا الحصر، صيرورة فلسطين المحتلة من النهر إلى البحر ميدان الصدام الرئيسي منذ تفجر انتفاضة أطفال الحجارة في ديسمبر/ كانون الأول ،1987 ووضع النهاية الحاسمة لطموحات التمدد الصهيوني، بعد الانسحاب الذي فرضته المقاومة اللبنانية من جنوبي لبنان في مايو/أيار ،2000 وما يبدو جلياً من أن "الأمن" الصهيوني، العزيز على صناع القرار على جانبي الأطلسي، بات رهينة بيد المقاوم العربي . فضلاً عن افتقاد "إسرائيل" قوة ردعها بعد فشلها المتوالي في عدوانها على لبنان عام ،2006 وعدوانيها على قطاع غزة المحاصر عامي 2008 و2012 .
ولم يعد خافياً أن ما أسمته الإدارة الأمريكية "عملية السلام"، كما اعتماد سلطة حكم الذات الفلسطينية "المفاوضات" خياراً استراتيجياً، والقول بحل "الدولتين"، كل ذلك هو اليوم مجهض تماماً، بفعل التزام القيادات "الإسرائيلية" المتوالية رفض السلام إلا بشروطها العنصرية، والرفض الصهيوني التاريخي لأي من حقوق الشعب العربي الفلسطيني المشروعة، عملاً بالاستراتيجية التي كان قد حددها بن غوريون في ثلاثينات القرن الماضي بقوله إنه على غير استعداد للتنازل عن واحد في المئة من المفاهيم والأهداف الصهيونية مقابل السلام .
كما لم يعد خافياً أن الزمن خلال السنوات التالية لنكبة 1948 لم يسر لمصلحة مشروع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، ولا بقيت الفعالية الدولية حكراً على الإدارة الأمريكية الراعية له، ولا ظل الرأي العام، خاصة في أوروبا وأمريكا، وعلى الأخص في الأوساط التقدمية والأكاديمية، قابلاً دون أدنى نقاش بالأساطير المؤسسة لدولة "إسرائيل" . ما يدل دلالة غاية في الوضوح على أن واقع الصراع العربي الصهيوني اليوم مختلف كيفياً عما كان عليه عام النكبة . ف"إسرائيل" بعد أن غدت محصورة وراء جدار الفصل العنصري لا تعدو كونها "غيتو" يهودياً، وإن امتلك مواصفات الدولة . وبالتالي باتت أسيرة تفاقم مأزقها البنيوي، ومع صعود اليمين التلمودي للسلطة، غدت مرشحة لتفاقم حدة نزاعاتها الداخلية، في الوقت الذي لم تعد فيه قادرة على العدوان على محيطها العربي كلما تفاقمت حدة أزماتها الداخلية . وما رشح من الإعلام "الإسرائيلي" في الشهور الأخيرة يعكس ما غدت تعانيه من عجز عن العدوان الذي اعتادته تحسباً من ردة فعل المقاومة في لبنان، أصغر وحدات محيطها العربي . وبالمحصلة ارتدت "إسرائيل" لتصبح عبئاً تاريخياً على رعاتها الأمريكان، ولم تعد رصيداً استراتيجياً لهم .
ولم يكن الصراع يوماً فلسطينياً "إسرائيلياً"، وإنما كان على الدوام عربياً صهيونياً مع الحركة الصهيونية ورعاة مشروعها الاستعماري الاستيطاني وبقية داعميها دولياً وإقليمياً، وكما لم يحسمه إخراج القوات الفلسطينية من لبنان سنة ،1982 لن تحسمه أي تسوية يتوصل إليها وزير الخارجية الأمريكية مع سلطة حكم الذات الفلسطينية مهما بدت "منصفة"، وإنما سيمتد حتى تحسمه قوى الأمة العربية التي اعتادت دحر الغزاة . والمؤشرات الواعدة كثيرة .(الخليج)
عوني فرسخ
بالعودة لما كان في خريف ،1948 يتضح أن الحرب حسمت لمصلحة الصهاينة، إذ التقى حينها المعسكران الرأسمالي والشيوعي على دعمهم بالسلاح والخبراء العسكريين . فيما كانت الأنظمة العربية فاقدة استقلالية الإرادة والإمكانات العسكرية . بدليل أنه في كل المعارك كانت القوات الصهيونية أكثر عدداً، وأفضل تدريباً وتسليحاً، وتتميز بوحدة القيادة السياسية والعسكرية، ما جعل النكبة نتاجاً طبيعياً لتمايز الواقعين العربي والصهيوني . ولم تتمثل النكبة حينها فقط باحتلال 78% من أرض فلسطين واقتلاع 61% من مواطنيها العرب، وإنما أيضاً بتمزيق وحدة المجتمع الفلسطيني، وتدمير إمكاناته الاقتصادية، كما بغلبة ثقافة الهزيمة والشعور بالإحباط على المستوى العربي العام . وبالمقابل بدا التجمع الاستيطاني الصهيوني موحداً ومطمئناً إلى الحاضر وشديد التفاؤل بامتلاكه القاعدة القادرة على تمكينه من تحقيق طموحه التاريخي بمد نفوذه بين الفرات والنيل . فيما بدا دوره الوظيفي في الإقليم العربي مطلوباً من المعسكرين .
غير أن النكبة العربية والانتصار الصهيوني لم يكونا كل ما في المشهد، وإن سلط عليهما الإعلام الدولي الأضواء بكثافة، لتأصيل الانتصار الصهيوني والهزيمة العربية . فيما كثف الظلال على الامتناع العربي، الرسمي والشعبي، عن الصلح مع الصهاينة على أساس الأمر الواقع . كما على فشل الإدارة الأمريكية في سعيها إلى توطين اللاجئين وإسقاط حلمهم بالتحرير والعودة . فضلاً عن تقليل الكثيرين، عرباً وغير عرب، من أهمية تنامي ثقافة المقاومة ما وسع إطار القناعة الشعبية بأن شعب فلسطين وشعوب أمته العربية في صراع ممتد مع الإمبريالية وأداتها الصهيونية، في أرض عرفت تاريخياً بقدرة شعوبها الفذة على دحر الغزاة .
ولما صمدت إرادة الممانعة خلال العقدين التاليين للنكبة، وبدت الأمة العربية على عتبة امتلاك المبادرة الاستراتيجية في المنطقة، كان عدوان 1967 هو الحل الأمريكي الصهيوني . ولكن انتفاضة جماهير مصر وأمتها العربية في 9 يونيو/ حزيران رافضة تنحي عبدالناصر، ومصرة على مواصلة الصراع بقيادته، لم تجهض فقط أحلام الاستسلام التي راودت صناع القرار الأمريكي و"الإسرائيلي" فقط، وإنما وضعت مصر أيضاً على عتبة حرب الاستنزاف المجيدة التي كانت بإقرار القادة الصهاينة أول حرب تخسرها "إسرائيل" .
وحين تقرأ أحداث السنوات الست والستين الماضية يتضح بجلاء أن لا تداعيات نكبة ،1948 ولا مفاعيل نكسة ،1967 ولا انعكاسات ردّة السادات سنة ،1971 أدت إلى استلاب إرادة الممانعة والمقاومة المتجذرة في الثقافة العربية الإسلامية . بل شكلت كل منها تحدياً استدعى تحولات جذرية في الواقع السياسي والاجتماعي العربي، قطرياً وقومياً . وكان من أبرز نتائجها صيرورة المقاومة، بكل أشكالها، الرقم الصعب في معادلة الصراع التاريخي، ووقوفها على عتبة امتلاك المبادرة الاستراتيجية فيه، وصنع حقائق على الأرض تنطوي على مؤشرات واعدة . ومنها على سبيل المثال لا الحصر، صيرورة فلسطين المحتلة من النهر إلى البحر ميدان الصدام الرئيسي منذ تفجر انتفاضة أطفال الحجارة في ديسمبر/ كانون الأول ،1987 ووضع النهاية الحاسمة لطموحات التمدد الصهيوني، بعد الانسحاب الذي فرضته المقاومة اللبنانية من جنوبي لبنان في مايو/أيار ،2000 وما يبدو جلياً من أن "الأمن" الصهيوني، العزيز على صناع القرار على جانبي الأطلسي، بات رهينة بيد المقاوم العربي . فضلاً عن افتقاد "إسرائيل" قوة ردعها بعد فشلها المتوالي في عدوانها على لبنان عام ،2006 وعدوانيها على قطاع غزة المحاصر عامي 2008 و2012 .
ولم يعد خافياً أن ما أسمته الإدارة الأمريكية "عملية السلام"، كما اعتماد سلطة حكم الذات الفلسطينية "المفاوضات" خياراً استراتيجياً، والقول بحل "الدولتين"، كل ذلك هو اليوم مجهض تماماً، بفعل التزام القيادات "الإسرائيلية" المتوالية رفض السلام إلا بشروطها العنصرية، والرفض الصهيوني التاريخي لأي من حقوق الشعب العربي الفلسطيني المشروعة، عملاً بالاستراتيجية التي كان قد حددها بن غوريون في ثلاثينات القرن الماضي بقوله إنه على غير استعداد للتنازل عن واحد في المئة من المفاهيم والأهداف الصهيونية مقابل السلام .
كما لم يعد خافياً أن الزمن خلال السنوات التالية لنكبة 1948 لم يسر لمصلحة مشروع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، ولا بقيت الفعالية الدولية حكراً على الإدارة الأمريكية الراعية له، ولا ظل الرأي العام، خاصة في أوروبا وأمريكا، وعلى الأخص في الأوساط التقدمية والأكاديمية، قابلاً دون أدنى نقاش بالأساطير المؤسسة لدولة "إسرائيل" . ما يدل دلالة غاية في الوضوح على أن واقع الصراع العربي الصهيوني اليوم مختلف كيفياً عما كان عليه عام النكبة . ف"إسرائيل" بعد أن غدت محصورة وراء جدار الفصل العنصري لا تعدو كونها "غيتو" يهودياً، وإن امتلك مواصفات الدولة . وبالتالي باتت أسيرة تفاقم مأزقها البنيوي، ومع صعود اليمين التلمودي للسلطة، غدت مرشحة لتفاقم حدة نزاعاتها الداخلية، في الوقت الذي لم تعد فيه قادرة على العدوان على محيطها العربي كلما تفاقمت حدة أزماتها الداخلية . وما رشح من الإعلام "الإسرائيلي" في الشهور الأخيرة يعكس ما غدت تعانيه من عجز عن العدوان الذي اعتادته تحسباً من ردة فعل المقاومة في لبنان، أصغر وحدات محيطها العربي . وبالمحصلة ارتدت "إسرائيل" لتصبح عبئاً تاريخياً على رعاتها الأمريكان، ولم تعد رصيداً استراتيجياً لهم .
ولم يكن الصراع يوماً فلسطينياً "إسرائيلياً"، وإنما كان على الدوام عربياً صهيونياً مع الحركة الصهيونية ورعاة مشروعها الاستعماري الاستيطاني وبقية داعميها دولياً وإقليمياً، وكما لم يحسمه إخراج القوات الفلسطينية من لبنان سنة ،1982 لن تحسمه أي تسوية يتوصل إليها وزير الخارجية الأمريكية مع سلطة حكم الذات الفلسطينية مهما بدت "منصفة"، وإنما سيمتد حتى تحسمه قوى الأمة العربية التي اعتادت دحر الغزاة . والمؤشرات الواعدة كثيرة .(الخليج)
عوني فرسخ
إرسال تعليق