كان المثقف حاضراً ومتفاعلاً مع حالة "الربيع" على أمل أنها "الخلاص"، إلا أن رؤى المثقفين تغيرت بعد أن صارت تهديداً للأوطان والمكتسبات، ومهدت لسيادة نمط فكري واحد، وهو نمط الإسلام السياسي
يفترض أن يقوم المثقف بدور طليعي في الثقافة، على اعتبار أنه المحرك الرئيس لها، ينقلها من حالة الجمود والسكون إلى حالة الحركة والتفاعل والانتشار، وعلى اعتبار أن المثقفين هم حلقة الوصل بين الثقافة والمجتمع، حيث يفترض أن يقوموا بدور طليعي لا في ثقافتهم فحسب، بل في الثقافة الإنسانية ككل.
في العالم العربي، تراجع الدور المؤسسي في الثقافة بعد ظهور الحالة السياسية التي عُرفت بـ"الربيع العربي"، حيث لم تكن التغيرات التي خلفتها هذه الهزات الاجتماعية العنيفة منحصرة في الشأن السياسي والاقتصادي، بل كانت الحركة الثقافية في مقدمة المتأثرين بهذه الحالة، مما أدى إلى انعكاس خطير وهو طغيان السياسة اليومية على الثقافة، وبالتالي اقتصرت النظرة الثقافية على حل المشكل الآني بدلاً من النظر إلى آفاق المستقبل.
كان متوقعاً في حالة "الربيع العربي" أن يرث السياسيون الثورات الشعبية، ولكن لم يكن متوقعاً أن يكون "الإسلام السياسي" هو البديل في ثورات الشعوب العربية التي قادها ناشطون من عامة الناس في تونس ومصر واليمن وليبيا، ويفترض أن تكون سورية أحد أجزاء هذه التركة، إلا أنه لم يكن واضحاً أن يأتي الصيف العربي (لاهباً) بعد الربيع، وقد احتاجت الأمور لعامين حتى تتضح الرؤى، ويتضح دور عدة قوى في تلميع نوعية معينة من الثوار تمهيداً لاختطاف تنظيم الإخوان المسلمين الثورة في كافة عناقيده السياسية وتوجهاته.
كان المثقف والفنان والمفكر حاضرين ومتفاعلين مع هذه الحالة الخاصة في العالم العربي على أمل أنها حالة "الخلاص"، إلا أن رؤى المثقفين تغيرت بعد أن صارت هذه الحالة تهديداً للأوطان والمكتسبات الوطنية، وأقلها سيادة نمط فكري واحد في السياسة والثقافة، وهو نمط الإسلام السياسي.
هنا بدأت تبرز قضية "التنوير" بالنسبة للمثقف العربي كقضية أزلية لا يمكن تجاهلها تحت أي ظرف، لأنها رمّانة الميزان بالنسبة للثقافة بشكل عام، وبالتالي فإن محاولة قراءة الوضع من جديد خلقت نوعاً من العزوف من قبل بعض المثقفين، وغضباً على مثقفين آخرين-ومنهم أدونيس على سبيل المثال- لأنهم فضلّوا استمرار الوضع القائم، رغم سوئه، على الفوضى العارمة التي من نتائجها انبعاث نموذج "إنسان الغابات" من خلال الجماعات الإسلاموية التي حوّلت سورية اليوم إلى كوكب آخر من التخلّف لا مثيل له في الوجود، حتى في أفغانستان زمن "الجهاد".
وإذا ما بحثنا في المزاج العام للمجتمعات العربية سنجد بروز دور نمط من المثقفين دفاعاً عن وجود "الوطن" ومكتسباته المدنية، وربما دون فما كان يعتبره المثقف "نضالاً" ثقافياً بالأمس أصبح اليوم دوراً يمكن أن يدّعيه أي أحد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، التي هي قطب الرحى بالنسبة لحالة "الربيع العربي" حتى أصبحت الشخصيات "الهُلامية" تقوم بـ(نضال مسرحي) في الساحة الثقافية محصلته النهائية المزيد من المتابعين لا أكثر!
كان للحالة السياسية تأثير على المجال الثقافي العربي، وما عاشته المنطقة العربية خلال السنوات الماضية وظهور ما سمي بـ"الربيع العربي" كان لا بد من ظهور دور المثقف مرة أخرى ولكن هذه المرة في ظل موقف سياسي واجتماعي واضح وسط هذه التغيرات السياسية المتسارعة، غير أن استمرار هذا الدور الطليعي لن يتكرس إلا في وجود مؤسسات مجتمع مدني يمكن من خلالها للمثقف أن يتحرك اجتماعياً ويؤثر ويتأثر، على الرغم من اختلاف مواقف المثقفين وآرائهم حيال العديد من القضايا، ومنها "الربيع العربي" غير أن الصورة الأكثر حضوراً في ذهن المثقف اليوم هي: لا لاستبدال الواقع بواقع أكثر سوءاً ودماراً!
سعود البلوي
إرسال تعليق