أسقطت الانتخابات الرئاسية المصرية "ثقافة الضوضاء" التي تجلت في حالة نواح ونحيب وعويل غير مبررة، أثارت في المقابل حالة استهجان عام، بقدر ما جاء الرد على الأرض وفي الواقع بكتلة تصويتية كبيرة وإرادة شعبية جارفة انتصرت لثورة 30 يونيو، وقررت بحسم اسم الرئيس الجديد للجمهورية الجديدة.
وواقع الحال أن الضوضاء كثقافة ضارة بأي مجتمع انساني موضع اهتمام في الغرب بقدر ما تحتاج لتشريح ثقافي في بلد كمصر والعالم العربي الذي يعاني من الظواهر الصوتية وحالات التصايح والصراخ وأحيانا السباب المنهمر من شاشات تلفزيونية!
وفي كتاب جديد صدر بالانجليزية بعنوان: "الشقاق: قصة الضوضاء"، يقدم المؤلف مايك جولدسميث سردا مشوقا لثقافة لضوضاء منذ العصور الموغلة في عمق التاريخ وحتى عصر ما بعد الحداثة، فيما قد ينطوي تاريخ الضوضاء بمعنى من المعاني على نوع من التأريخ لبعض البشر الذين لا يمكن ان يعيشوا دون ان يثيروا الضوضاء بما تتضمنه من صراخ وتصايح وتهويل واستعمال كلمات غير مفهومة وأحيانا السباب والشتائم.
والكتاب من عنوانه يشير لكلمة الشقاق المقترنة بالضوضاء ومرادفات او معان قريبة مثل الفرقة والخلاف وعدم الانسجام والتشويش والتنافر والنشاز وعدم التوافق، أما في متنه ومحتواه فهو يمزج ما بين التاريخ والنظريات والمصطلحات العلمية للضوضاء ورجع الصدى في هذا الكون وكيفية تعامل انسان المدينة مع الظواهر الصوتية.
والضوضاء مضادة دوما للتفكير والتدبر والتأمل واتخاذ قرارات صائبة والقدرة على العمل البناء لحل مشاكل متراكمة او معضلات ومشاكل صعبة كما أنها لا يمكن أن تخدم وطنا في لحظات مصيرية ومن ثم فقد حق للدكتور محمد بهاء الدين ابو شقة المستشار القانوني للحملة الانتخابية للمشير عبد الفتاح السيسي ان يقول في تصريحات منشورة: "ان البعض من اعداء الوطن حاولوا افساد فرحة المصريين من خلال الترويج بأن حجم الاقبال كان ضعيفا"، مشيرا الى ان "النتائج أثبتت عكس ما رددوه".
ومازالت التساؤلات والتفسيرات تتوالى حول سر ما حدث من "هستيريا" في ذروة العرس الانتخابي واتجاه البعض على شاشات تلفزيونية داخل مصر لخلق "حالة تشاؤمية مجافية لواقع على الأرض يدعو للتفاؤل وتنافس شريف بين مرشحين على قاعدة الوطنية المصرية"، فيما كان لسدنة الحرب التلفزيونية المدارة من الخارج ضد مصر ان يستغلوا هذه "الحالة الهستيرية" بما يحقق اهدافهم التي لا تحمل خيرا لمصر والمصريين.
واوضح العديد من المحللين والمعلقين انه من الظلم المقارنة بين الزخم الجماهيري في لحظة ثورة كثورة 30 يونيو دفاعا عن الوجود وبين الحضور الشعبي في اي انتخابات مهما كانت، كما ان ظاهرة مشاركة كل الناخبين في اي عملية انتخابية لا تعرفها اي دولة في العالم حتى الآن على الأقل.
وفي هذا السياق وبعد اغلاق صناديق الاقتراع قال محمد عبد الهادي رئيس تحرير جريدة "الأهرام" ان المصريين تدفقوا على مقار الاقتراع رغم حرارة الجو والغاء لجان الوافدين وعلت البسمة وجوها كثيرة بما يعكس حبا للحياة ورحيل مناخ الكآبة، غير أن ما جرى في الأيام الثلاثة للانتخابات "يستوجب وقفة جادة وحقيقية بعد ان كادت تصرفات وسلوكيات البعض تفسد الصورة".
ورأى محمد عبد الهادي ان "بيت القصيد فيما جرى هم هؤلاء الذين يسعون الى تصوير أنفسهم على انهم وكلاء عن الشعب المصري ووكلاء عن المرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي ووكلاء عن مستقبل الوطن في لحظة يحتاج المصريون الى وجوه أكثر نضارة وأكثر فهما للمتغيرات التي طالت المجتمع بعد ثورتين كبيرتين".
ولاحظ رئيس تحرير "الأهرام" ان ايام الانتخابات ازاحت الستار عن اخطاء كثيرة كاد بعضها نتيجة عدم كفاءة، او عدم وعي سياسي او باستدعاء نهج، قديم يصدر لجموع الناخبين ان اللجان خاوية على عروشها وان شرعية الرئيس القادم منقوصة، ما لم يهب الى نجدته مجموعة من اصحاب المصالح الخاصة، أو اصحاب قنوات خاصة قاموا بعملية شحن مقصودة او غير مقصودة تنبيء في جميع الأحوال عن سوء قصد في التناول الاعلامي كما لو كانت مؤامرة ضد المرشح الأبرز تروج لضعف الاقبال وتصرخ في الناس ان فرص الرجل تتهاوى.
واعتبر عبد الهادي ان "البعض هنا حاول ان يصطنع المشكلة من اجل ان يقول ان في يده الحل لمأزق مصنوع بعناية فائقة على الشاشات بينما الأرقام من الساعات الأولى تقول ان هناك شيئا ما ينبغي الالتفات اليه, فما معنى ان تشير الأرقام المجمعة الى تصويت قرابة 23 مليونا قبل ساعات من غلق الصناديق بنهاية اليوم الثاني ثم ينوح البعض ويتباكى على شرعية رئيس قادم؟!
وفيما وصف رئيس تحرير "الأهرام" هذه الظاهرة ب"المشهد الاعلامي المجنون الذي يضيع حسنات الاقبال الجماهيري في عموم البلاد"، فقد خلص الى ان رئيس مصر القادم يأتي مكتمل الشرعية بأصوات المصريين بعد ان سطر الملايين فصلا جديدا في ملحمة الثورتين الشعبيتين التي "كان بطلها المواطن المصري وليس نجوم الفضائيات أو حملة المباخر".
فثقافة الضوضاء التي جسدها البعض بصورة لافتة في ذروة الانتخابات كانت تصب- سواء عن علم او جهل- في مربع ارباك المشهد الانتخابي دون مبرر واثارة توتر لا مسوغ له وبما "يقدم هدية مجانية للمتربصين في الخارج والراغبين في التشكيك في سلامة الانتخابات ونزاهتها"، فيما رأى المحلل الدكتور وحيد عبد المجيد ان هذه الحالة شكلت ضغوطا على اللجنة العليا للانتخابات، موضحا ان "مصدر شرعية اي انتخابات لا علاقة له ابدا بنسبة المشاركة المتغيرة بطابعها".
والضوضاء- كما يؤكد هذا الكتاب الجديد- تصاعدت حدتها منذ عصر الثورة الصناعية وباتت تثير السخط حتى وصف البعض مدينة مثل لندن في خضم هذه الثورة بأنها "مدينة الأصوات المنكرة"، ومن الطريف انه عندما اشتكى الفيلسوف وعالم الرياضيات البريطاني تشارلز بابيج من الضوضاء التي يثيرها جيرانه وتشوش عليه في عمله وتعطل جهده الفكري كان رد فعل الجيران ان استأجروا فرقة موسيقية للعزف الصاخب امام المنزل!
هذا العالم الكبير الذي قضي عام 1871وقدم للانسانية الأساس النظري للكمبيوتر أو الحاسوب القابل للبرمجة، أحصى الأعطال التي تعرض لها في عمله جراء الضوضاء في غضون 80 يوما فبلغت 165 عطلا!
واليوم، كما يوضح هذا الكتاب الجديد تؤكد احصاءات للاتحاد الأوروبي ان اكثر من نصف سكان المدن يعانون من "الضوضاء المفرطة".
واذا كان الرومان القدماء كانوا يشعرون بالضيق والانزعاج من الضوضاء التي تثيرها وسائل النقل في زمنهم كما يشير الكتاب، فما القول فيما تسببه بعض وسائل الاعلام المتلفزة على وجه الخصوص من ضوضاء وتشويش في لحظات حرجة ومصيرية في حياة مجتمع ما، كما حدث في ذروة الانتخابات الرئاسية بمصر؟!
حرية التعبير مقدسة ومصونة بحكم الدستور، لكن حرية التعبير تختلف كل الاختلاف عن ثقافة الضوضاء وحرية السباب وكيل الاهانات للشعب على اطلاقه ونعته بصفات مهينة، كما حدث من حفنة خرجت على بعض الشاشات أثناء الانتخابات الرئاسية تزعم على خلاف الحقيقة التي أكدتها الأرقام ان المصريين أحجموا عن المشاركة في هذه الانتخابات، ومن ثم كان الحل من وجهة نظرهم المنتمية بامتياز لثقافة الضوضاء هي توجيه السباب للشعب المصري!
وأثارت تلك الحالة الغريبة حقا تساؤلات مبررة وافتراضات شتى ما بين حسن الظن بالنوايا رغم سوء التناول الاعلامي، و"دس السم في العسل" والانتهازية والتشكيك الخفي والرغبة في افساد فرحة المصريين بانتخابات نظيفة وحرة ونزيهة، أو "المزايدة على شعب عظيم باستخدام ثقافة الضوضاء وهستيريا التحفيز".
وكان الدكتور عبد الله المغازي المتحدث باسم الحملة الانتخابية الرسمية للمشير عبد الفتاح السيسي قد أكد ان "الاقبال على التصويت كان جيدا وليس ضعيفا كما ادعى البعض"، معربا عن أمله في "ألا تقع وسائل الاعلام مرة أخرى في الفخ الذي نصبه البعض بأن الاقبال لم يكن كثيفا".
كما اعلن الدكتور حازم عبد العظيم رئيس لجنة الشباب بالحملة الانتخابية للمشير السيسي "فشل اكذوبة عزوف الشباب والاقبال الضعيف والمقاطعة"، وقال ان "الشعب المصري اخرس ببساطته هذه الألسنة"، مضيفا ان الحملة الانتخابية "تحملت الهجوم والسباب من الإعلام وكان الرد على الأرض والعبرة بالنتيجة".
وفي سياق رصده ضمنا لهذه الظاهرة قال الشاعر والكاتب الكبير فاروق جويدة "ان الشيء المؤكد ان 30 يونيو هو الذي حمل السيسي الى قصر الرئاسة على اعناق الملايين التي اعطته ثقتها منذ عام تقريبا فلبت نداءه ثم اعطته اصواتها حين جاء رد الجميل، ولهذا فان الرجل غير مدين لأحد"، سواء في "الإعلام أو رجال الأعمال والفلول والأحزاب السياسية وبقايا النخبة الغائبة".
وأضاف جويدة: "يخطيء الاعلام المصري ورجال الأعمال والفلول اذا توهموا انهم جاؤوا بالسيسي رئيسا، ويخطيء الاخوان اذا تصوروا انهم كانوا شركاء في المشهد السياسي في الانتخابات الرئاسية"، مؤكدا ان "البطل الحقيقي كانت اصوات الجماهير التي خرجت الى صناديق الانتخاب".
ومن ثم فقد رأى جويدة ان الأداء السيء لبعض اجهزة الاعلام كان في مقدمة السلبيات في المشهد العام للانتخابات الرئاسية، معتبرا في طرح بجريدة "الأهرام" ان هذه الأجهزة الاعلامية لم تفرق بين عصرين "عصر قام على اساليب الطبل والزمر والرقص على الحبال وعصر جديد يأتي بعد ثورتين وتجربة ديمقراطية وليدة تحاول ان تثبت أقدامها وسط مناخ سياسي اتسم بالغوغائية وارتجال وغياب الخبرة".
وفي مقابلة صحفية قال المستشار عبد العزيز سالمان الأمين العام للجنة العليا للانتخابات الرئاسية ان نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية حسب اخر احصاء بلغت نحو 47 بالمائة، وان عدد الذين شاركوا في هذه الانتخابات بلغ حسب مؤشرات أولية ما بين 25 و26 مليون ناخب.
وأكد أن اللجنة لم تتعرض لأي ضغوط بشأن مد فترة التصويت ليوم ثالث، موضحا ان " الاقبال على التصويت كان كثيفا في الصباح والمساء وضعيفا في فترة الظهيرة نظرا لحرارة الجو الشديدة ولذا أرادت اللجنة ان تمكن كل الناخبين من الإدلاء بأصواتهم".
ووصف سالمان قول البعض بأن منع الوافدين من التصويت بلجان خاصة بهم ادى لحرمان 9 ملايين ناخب من الادلاء بأصواتهم ب"المبالغة الكبيرة جدا"، فيما توقف أمام رقم ال9 ملايين مضيفا "لا أعلم من أين أتوا بهذه الأرقام والتي ليس لها اساس بالواقع او السجلات"، مشيرا الى ان مد التصويت ليوم ثالث كان "حلا نسبيا لمشكلة الوافدين".
وكان ماريو ديفيد رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي لمتابعة الانتخابات الرئاسية في مصر قد أعلن ان هذه الانتخابات جرت في اجواء هادئة بدون انتهاكات جسيمة وأدارتها اللجنة الانتخابية العليا بمهنية ووفقا للقانون كما ذكرت بعثة الاتحاد الافريقي انها لم ترصد أي تجاوزات تؤثر على عملية التصويت التي جرت في جو من الاستقرار والسلام والنظام.
وكذلك اوضح التقرير المبدئي لبعثة جامعة الدول العربية ان العملية الانتخابية في مصر تمت بنزاهة وشفافية وبتوافق مع الاجراءات المنصوص عليها في القانون المصري والمعايير الدولية المتعارف عليها.
واذا كانت ثقافة الضوضاء قد تجلت بأسوأ معانيها في لحظات مصيرية للوطن، فإن جموع المصريين اسقطوا هذه الثقافة بقدر ما عبروا عن الوطنية المصرية الجامعة ومنحوا أصواتهم مجددا لثورة 30 يونيو، ومؤكدا أن "الشعب هو صاحب الفضل في ما يتم الآن"، قال المشير عبد الفتاح السيسي قبيل اداء اليمين الدستورية كرئيس للجمهورية الجديدة في مصر: "سنحقق سعادة المواطنين بالعمل لا بالكلام"، فيما شدد على انه "لا اقصاء لأحد، فأيدينا مفتوحة للجميع لبناء الوطن".
ليس لبعض وسائل الإعلام ان تتحول في ظل ثقافة الضوضاء لماكينة لبث المعلومات المغلوطة والأفكار المثيرة للفوضى أو الانقسامات في المجتمع بل والاجتراء على الشعب بتوجيه السباب له في عمومه وعلى اطلاقه، كما فعل البعض عبر شاشات تلفزيونية خاصة في الانتخابات الرئاسية.
إهانة الشعب في خضم الحالة الهستيرية لثقافة الضوضاء مرفوضة وثقافة الاعتذار مطلوبة.. وإذا كان مايك جولد سميث مؤلف الكتاب الجديد عن الضوضاء يشعر بالتفاؤل حيال المستقبل وامكانية ان ينعم الانسان بغد اقل ضوضاء، فالأمل كل الأمل ان تكون الجمهورية الجديدة في مصر بريئة من الضوضاء التي كادت ان تعكر صفو انتخابات رئاسية جرت على أرضية وطنية.
مصر لم يعد بمقدورها احتمال أو تحمل هؤلاء الذين يمزقونها كل ليلة بالصراخ على بعض الشاشات من اجل نجومية متوهمة أو أطماع مادية شرهة وجشعة.. لا مصر ولا المصريين ولا أوضاع المنطقة والعالم تتحمل كل هذه الضوضاء المفرطة في الداخل المصري وخلق حالة مضادة للتفكير!
تكلفة الضوضاء الآن اكبر من القدرة على التسامح والاحتمال وهي حالة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بحرية التعبير وإلا كان مباحا لأي شخص ان يقف على قارعة الطريق ويسب المارة ويرجمهم بفاحش القول!
وإذا كانت نتائج وارقام الانتخابات الرئاسية قد أسقطت ثقافة الضوضاء، فإن هذه الثقافة المضادة في الجوهر لحرية التعبير، ناهيك عن ثقافة الاتقان والاصطفاف الوطني المنشود لا يجوز ان تصول وتجول في الجمهورية الجديدة لتوزع الاتهامات كما يحلو لها وتصيب المصريين بالاكتئاب.
مصر في جمهوريتها الجديدة ليست بحاجة لليالي الثرثرة والضوضاء الدكناء، انما الوطن يتطلع لنهارات محتشدة بسواعد العمل المخلص والقوة والفعل ومساءات كثيرة العطر والكبرياء، مساءات مصرية تفتح طريقا للرؤية وطريقا للخيال وتمنح اللحظة رحابة لا صراخا.
إرسال تعليق