Home » » إبراهيم غانم يكتب : ثقافة العمل في المدرسة 2

إبراهيم غانم يكتب : ثقافة العمل في المدرسة 2

رئيس التحرير : Unknown on الأحد، 22 يونيو 2014 | 12:15 ص



مازالت مهجة فؤادي (البلكونة) تغدق على ذاكرتي كل شيء جميل أنقضت سنواته، سنوات الطفولة التي تزيد عن العقود الأربعة مليئة بالأحداث خاصة سنوات الدراسة الابتدائية بمدرسة شبرا الابتدائية القديمة بنين. كانت ثقافة العمل لدى معلمينا آنذاك هي العمل وفق المعايير و الضوابط المتعارف عليها و التي لا تقبل أي تقاعس أو تكاسل أو حيود عن الهدف المرسوم أو على قد فلوسهم مثلما نحن عليه الآن. رشفت القهوة، أخذت نفساً عميقاً من سيجارتي، تنهدت تنهده يملؤها أنين الآاه تحسراً على الخلق الرفيع و الذمة و الضمير التي أصبحت في خبر كان.

تذكرت الأستاذ مصطفى فهيم مدرس التربية الرياضية، كانت حصص التربية الرياضية لا تقل أهمية عن المواد التعليمية. كان يطلب من كل فصل ملابس رياضية متمثلة في شورت، حذاء رياضي ماركة باتا، فانلة (تي شيرت) بمسماه الحالي، جوارب رياضية. لكل فصل تي شيرت بلون مختلف عن الأخر مثل الفرق الرياضية الكبرى. كان في كل حصة شيء يختلف عن سابقه، كان مصطفى فهيم يأتي لنا بدكة خشبية مقلوبة، و علينا السير على العارضة الخلفية لها بإتزان. كلما فشلت في عبور العارضة و سقطت عليك الإعادة بتوجيه منه حتى تمر عبر العارضة بثبات و إتزان تام. لم نعرف أسم اللعبة أو أنها تندرج تحت أي نوع من الألعاب الرياضية. كان يصر على أن يقوم كل تلاميذ الفصل بأداء هذه اللعبة أو هذا التمرين. لا ينتقل للمرحلة التالية إلا بعد الانتهاء من المرحلة الأولى.

حصة أخرى بأتينا بقرص يعلمنا كيفية رميه و يقيس المسافة. يعلم كل تلاميذ الفصل دون استثناء هذا بصبر و جلد. مرة أخرى رمي الجلة. كان يأتي بقائمين خشبيين مدرجين رأسياً، يضع مرتبة خلفها و علينا القفز و المرور فوق حبل معلق على أطوال القائمين المدرجين بنجاح تام، إذا فشلت المحاولة عليك تكرارها حتى تنجح في فعلتها. هذا خلاف العدو و العدو بعبور حواجز، الوثب من الثبات، الوثب مندفعاً بالعدو لتقفز في حوض رمال ناعمة أعده هو مسبقاً. أعد أنابيب حديدية تم طلاؤها و علينا التعلق عليها بسواعدنا و أداء تمرينات لا نعرف أسمها لكننا علينا أن نتعلمها و نؤديها مثلنا في ذلك مثل المحترفين في اللعبة. كان يثبت شبكة تعلو العوارض الخشبية و علينا تعلم ضرب الكرة بضربة الإرسال و التعامل مع فنون هذه اللعبة و نمارسها دون أن نعرف أسمها، لكن علينا تأدية ذلك.

على الرغم من ضعف الإمكانيات صمم حلقة معدنية مثبتة بأحد الحوائط المبنية في فناء المدرسة و قام برسم مربعين باللون الأسود، و كان يعلمنا كيفية الإمساك الصحيح بالكرة و وضعية القدمين و عليك قذف الكرة داخل المربع الداخلي حتى تضمن سقوط الكرة داخل الحلقة.

أما عن كرة القدم فهي اللعبة الوحيدة التي كنا نعرف أسمها و نحن صغاراً، كان مصطفى فهيم لا يعتمد على معرفتنا بها، بل كان يعلمنا كيفية ركل الكرة بباطن القدم و خارج القدم و سن القدم و وش القدم، كان يعلمنا فنونها و مهارتها، لا يعتمد على استعدادك الشخصي مثلما يحدث الآن. تعرف اللعب أم لا؟!

يعلمنا و لا يدخر جهداً في ذلك. يعلمنا كيفية استقبال الكرة و استيقافها و إرسالها لزميلك، و كيفية المراوغة و تعليمك القاعدة في ذلك بأن تمرر الكرة تجاه القدم الثابتة للخصم. كل شيء له قواعد و أصول يعلمها لنا، لا يعتمد على الاجتهاد الشخصي لك. كان يقسم الفصل إلى فرق تلاعب بعضها البعض و أثناء اللعب يوجه و يصحح الأخطاء ليست في اللعبة لكن في أسلوب أداؤك. فمثلاً يوجه حارس المرمى يعلمه كيفية الإمساك بالكرة بأسلوب آمن، بعد الإمساك بها كيف يوجه جسمه ليفسح الطريق لللاعب المندفع صوبه حتى لا يصاب أحدهم.

عندما كبرنا و في العام 1976 كنا بالصف الثاني الإعدادي و كان يذاع عبر التلفاز دورة الألعاب الأوليمبية بمونتريال. شاهدنا كل الألعاب التي كان يعلمها لنا مصطفى فهيم و عرفنا أسماؤها و تبعيتها لأي لعبة رياضية.

ألعاب القوى: (الوثب العالي، الوثب الطويل، الوثب الثلاثي، العدو، حواجز، رمي القرص، رمي الجلة).

الجمباز: (السير على عارضة السويدي، أداء الحركات الرياضية على عارضة المتوازي).

(كرة السلة ـ الكرة الطائرة ـ كرة القدم)

كان هناك شعاراً مكتوباً على جدران المدرسة و أبنيتها (العقل السليم في الجسم السليم)، كان مصطفى فهيم يطبقه بجدية.

كان لا يقول أنهم صغاراً لا يعرفون أو أنه يؤدي يومه و السلام، أنه يعمل و يعمل بجد، لا يقول أنها حصص ألعاب ليس لها قيمة تعليمية (تحصيل حاصل بمعنى أدق). أهميتها من أهمية الحساب و العربي و العلوم و المواد الاجتماعية. آآآآآآه على الزمن وثقافة العمل و ضمير البشر رغم ضعف الإمكانيات و الرواتب و الأجور. إن هذا المجتمع هدفه كان الإنسان و ليس المادة، هدفه القيم النبيلة و الخلق الرفيع و الذمة و الضمير. ثقافة أن كل عمل مهم و هام و مؤثر و فعال. ثقافته (أحسن الشوغلانة نخسر و الناس تعيب علينا). هل نستطيع الآن استدعاء روح هذا الزمن و تطبيق ثقافاته. كلامي موجه للذين يتشدقون القول: "لا عودة للوراء". طالما حييت سأذكر ما أتذكره ممن علموني خلال سلسلة كتاباتي هذه بمشيئة الله إن كان في عمري بقية.

نهاية كل مشهد أتت رفيقة العمر و قالت: بتفكر في إيه النهار ده؟! رددت: بأفكر في التربية الرياضية. قالت: طيب كويس، قوم انزل دلوقتي عشان ما تتأخرش ع الشوغل و أعمل شوية رياضة كده نشط الدورة الدموية. رددت: رياضة أيه و دموية أيه؟! قالت: العربية. رددت: إشمعنى! قالت بهدوء شديد: الفردة اللي ورا يمين تعيش أنت. غيرها عشان مش ح أعرف أروح الشوغل بالعربية كده. أنا: أأأأأأه ه ه ه ه ه ه ه ه، يااااااااا رررررررررب.

في البلكونة

إبراهيم غانم
إنشر هذا الخبر :

إرسال تعليق