في هذه المرة خالفت عادتي التي لازمتني منذ نعومة أظفاري و هي الجلوس في البلكونة لعدة أيام نظراً لظروف صحية. لأول مرة في حياتي أذوق طعم التقدم الذي نسمع عنه، ليس التقدم الدراسي أو الأدبي أو المادي. لكنه تقدم العمر بي و لذلك تداعياته. أنني لم أحتمل برد الصباح الباكر خاصة مع بداية فصل الخريف.
عاندت شيخوختي المبكرة التي أصابتني جراء عطب منظومة الحياة التي نعيشها في كافة المناحي. فلم تسعني الذاكرة بأن أسبح بمخيلتي و أجتر ذكرياتي، يبدوا أن الزهايمر بدأ في مداهمتي على إستحياء فتذكرت ما جرى بالأمس القريب و لم أستطع تذكر أبعد من ذلك. شاهدت برنامجاً تلفزيونياً ضمن وابل البرامج الحوارية التي تصدع رؤوسنا في تلك الأيام. كلام و بس. صدقت ما قيل عن المهنية و الحرفية في تلك البرامج، أبصم بأصابعي العشر أنها فعلاً مهنية و إحترافية في النصب و الدجل المنمنهج، سواء من القائمين عن تلك البرامج أو من السادة الضيوف الأفاضل الملقبون بالنخبة و النشطاء. لست أدري من الذي أنعم عليهم بتلك الألقاب البراقة اللامعة التي لم نسمع عنها من قبل؟ من انتقاهم دون التسعون مليوناً ليكونوا النخبة و الناشطون و نحن الكسالى و الثكالى، هم المثقفون و نحن جهلاء المجتمع؟ تابعت الحوار الدائر عن المنظمات الحقوقية، سألت نفسي حقوقية من؟! ماذا يفعل أولائك النصابون المنصبون كسيوف على رقاب الغلابة؟ قمت بالإتصال على الرقم الظاهر على الشاشة و أستمتعت بالرسائل الصوتية التي أتت إلي عبر هاتفي لمدة برنامجين بعد البرنامج الذي أتابعه من أوله، سعر الدقيقة الواحدة جنيهاً و نصف و بالهنا و الشفا لشركة المحمول المشترك بها. كانت الرسائل إستعراضاً و إعلاناً على حسابي لتلك القناة الفضائية و أعتقد أن ذلك يحدث في كل القنوات. عدد الإعلان محاسن و مفاتن و جمال القناة و حلاوتها و عذوبتها ثم أعطاني إختيارات الإشتراك في مسابقات و أرقام الاختيارات، و إعلاناً عن برنامج محمول يحل شفرة الأرقام و المطبخ الأسبوعي و المطبخ اليومي، و الكلب الرومي و الجبن الرومي، كل هذا عبر الإتصال الرومي. كلها ليست لها علاقة بالبرنامج الذي أتابع أو أرغب في عمل المداخلة التليفونية به. تلك هي ضريبة جهلي بأن المداخلات تأتي من الحجرة المجاورة للأستوديو المسماة بالكنترول، و أن المتصلين بيدهم ورقة يقرأون منها ما يملى عليهم لزوم التجميل و الإثارة لحركة البرنامج و حيوية الحوار. هل هذه هي المهنية و الحرفية؟ نا أسميها حركة نصف كم. إنها الإنحرافية و النصب الشيك في رأيي. أما عن حقوق الإنسان و الجدل المثار حولها، إنهم يتحدثون عن حريات و دفاع عن مجرمين و حقوق من أحرقوا و سلبوا و نهبوا و بهدولوا عبيدوا. إنهم يدافعون عن الفوضوية تحت مسمى حقوق الإنسان. يدافعون عن حقوق المرأة و العنف الممارس ضدها، و أقسم بالذي خلقني غير حانث لو أن زوجة عم محمد البرقي بواب العمارة ذهبت لتلك المنظمات لتشكو حالها المتردي جراء إرتفاع الأسعار و بطالة أبنائها الجامعيين و جلوسهم بجانبها على دكة العمارة فلم يعيرها أحداً أي إهتمام بل سيطردها بواب العمارة الكائن بها شقة المنظمة الحقوقية؟ بالبلدي كده الناس دي بتدينا على قفانا بشياكة. أين حقوق الإنسان من طوابير الخبز التي راح ضحيتها ناس غلابة؟ أين المطالبة بحقوق شهداء طوابير العيش؟ أين تلك المنظمات من الملايين الذين إنضموا لطابور العاطلين من عمال التراحيل و عمال البناء و العاملين في السياحة و العاملين بالمحال التجارية بوسط البلد التي أصابها الشلل التام جراء إعتصامات صيع و عربجية الأخوة؟ لم يتطرق أحداً إلى هذا و كأن على رؤوسهم الطير. و أنا في حالتي هذه و جدت زوجتي فوق رأسي بإبتسامة هي الأولى من نوعها و بيدها تليفوني المحمول. إنتظرت قولها أنني تأخرت عن الذهاب لعملي، لكن الإجابة هذه المرة غير مسبوقة. قالت لي: "تليفون جالك". سألتها فرحاً: "مداخلة من البرنامج بتاع إمبارح؟" أجابت بالنفي و ظننت أن حقوق الإنسان تبسمت لي، فسألت ببراءة عبيط: "أمال مين؟" ردت في هدوء شديد: "رئيس القطاع بيقول أنه مبسوط منك قوي و ما تجيش الشوغل تاني"! إبراهيم غانم......
إرسال تعليق