بقلم: السيد يسين
هناك إجماع بين الباحثين علي أن النزعة للديموقراطية أصبحت تسود العالم, وخصوصا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي, وتحول عديد من النظم السياسية الشمولية في أوروبا الشرقية إلي الديموقراطية.
ويلاحظ بعض المفكرين أن النزعة للحرية ورفض القهر قد تكون موجودة بشكل شبه غريزي في النفس الإنسانية في كل مكان, إلا أن الديموقراطية كنظام سياسي لا يمكن أن تخلق نفسها من العدم, بل لابد لها لكي تقوم وتترسخ علي أسس صحيحة أن تتوافر مجموعة من المتطلبات المبدئية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية, بالإضافة طبعا إلي الإرادة السياسية لدي النخب المؤثرة ولدي الجماهير معا, في الانتقال من الشمولية والسلطوية إلي الليبرالية والديموقراطية.
وهناك كما يري أغلبية الباحثين أسس للديموقراطية تمثل منظومة متكاملة تتألف من مفردات أساسية, إن لم تتوفر لا يمكن القول أن النظام السياسي ديموقراطي.
وقد أجمل بعض الباحثين المفردات أو الأسس التي تشكل منظومة الديموقراطية في عشرة مبادئ. وسنري أن هذه الأسس لا يمكن إعمالها في التطبيق إلا إذا توافرت شروط مبدئية سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية.
ونريد أن نطبق منهجية التحليل الثقافي بالنسبة لكل أساس من هذه الأسس, لكي نري هل يمكن تطبيقها في المجتمع العربي أو لا.
الأساس الديموقراطي الأول هو مبدأ السيادة للشعب. وقد يبدو هذا المبدأ بديهيا باعتبار أن أحد التعريفات الذائعة للديموقراطية التي تنسب إلي إبراهام لينكولن إنها هي حكومة الشعب التي يؤسسها الشعب وتعمل لصالح الشعب.
غير أن هذا الأساس كان محل نزاع في المجتمع العربي. ذلك أن تيار الإسلام السياسي الذي يرفع شعار أن الإسلام هو دين ودولة لم يقبل هذا الأساس الذي ينتمي تاريخيا للتراث الليبرالي. وضد مبدأ السيادة للشعب رفعت الجماعات الإسلامية السياسية شعار الحاكمية لله.
وهم يقصدون بذلك أن الحكم تنص عليه آيات القرآن الكريم, وليس علي البشر سوي تنزيلها علي الواقع بدون أي تدخل منهم.
بل إن بعض الجماعات الإسلامية تري أن لفظ المشرع الذي يستخدم في القانون الوضعي والفقه الدستوري, ويقصد به الهيئات المنوط بها عملية التشريع بحكم الدستور والقانون, مسألة ضد الدين, لأن كلمة المشرع ينبغي أن تقصر علي الله سبحانه وتعالي دون غيره من البشر!
ونحن نعرف أن هناك صراعا فكريا ضاريا بين أنصار الدولة المدنية العربية الذي يرون ضرورة الفصل بين الدين والدولة, علي أساس أن هذه الدولة ينبغي أن تقوم علي أساس التشريع الوضعي, وليس علي أساس الفتوي كما تدعو هذه الجماعات الإسلامية, التي تريد في الواقع تأسيس دول دينية علي أنقاض الدولة المدنية العلمانية الراهنة.
وقد حاولت بعض الدساتير العربية وأبرزها الدستور المصري أن تتجاوز هذا الخلاف, بابتداع نص دستوري يقرر أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. غير أن أنصار الجماعات الإسلامية يحذفون في مجال الجدل كلمة المبادئ ويريدون أن يطبقوا أحكام الشريعة الإسلامية بتفصيلاتها بالكامل, وحسب تفسيرهم هم للنصوص الدينية.
ويمكن لتفسيراتهم الجامدة أن تؤثر علي وضع الأقليات في المجتمع العربي, كما أن تفسيراتهم فيما يتعلق بوضع المرأة في المجتمع قد يؤدي إلي الجمود الاجتماعي, واعتقال التطور الثقافي في دوائر فكرية ومسلكية بالغة المحافظة والرجعية. ومن ثم تحتاج إقامة النظام الديموقراطي إلي حوار فكري فعال بين أنصار مختلف التيارات الإيديولوجية في المجتمع العربي للوصول إلي توافق حول هذه المسائل الأساسية التي أشرنا إليها.
والأساس الثاني من أسس الديموقراطية أن الحكومات ينبغي أن تتشكل بناء علي رضا المحكومين, وهذا الأساس هو في الواقع لب مسألة شرعية النظم السياسية. فالنظام السياسي الذي يتمتع بالشرعية, هو بكل بساطة النظام الذي ينال رضا غالبية المواطنين. ومن الجلي أن هذا الأساس الضروري من أسس الديموقراطية يمثل في التطبيق عقبة كبري. ذلك أن النظم السياسية العربية شمولية أو سلطوية تمرست خلال نصف القرن الماضي بتشكيل حكومات لا تعكس رضاء المحكومين.
بل إنه في حالات عديدة وفي مجتمعات عربية متعددة مثل الأردن والمغرب والجزائر, قامت هبات جماهيرية شعبية اتسمت بالعنف الشديد في بعض الأحيان- ضد الحكومات التي مارست القهر السياسي والقهر الاقتصادي علي المواطنين, ومع ذلك لم تغير النظم السياسية السائدة طريقتها في فرض الحكومات المكروهة شعبيا علي الناس إلي أن قامت ثورات الربيع العربي فأزالت النظم الشمولية والسلطوية.
وتبدو الصعوبة البالغة في تطبيق هذا الأساس الجوهري من أسس الديموقراطية في أنه لو خضعت النخب السياسية الحاكمة لمعيار رضاء المحكومين في تشكيل الحكومات, فإن ذلك يعني عمليا التنازل الطوعي عن القدر الأكبر من النفوذ السياسي والامتيازات الطبقية الصارخة التي يتمتع بها أعضاؤها.
وإلي الآن لا يبدو أن النخب السياسية الحاكمة العربية مستعدة للتنازل الطوعي عن نفوذها السياسي وامتيازاتها الطبقية وهذه هي من بين الأسباب التي أدت إلي اندلاع ثورات الربيع العربي. وإذا انتقلنا إلي الأساس الثالث من أسس الديموقراطية وهو تطبيق حكم الأغلبية, لأدركنا أننا بصدد عقبة كبري ليست في النظرية ولكن في التطبيق!
ذلك أنه جرت العادة في عديد من البلاد العربية علي تزييف الانتخابات سواء كانت انتخابات رئاسية تقوم علي التنافس حول مقعد رئيس الجمهورية, أو تقوم علي نظام الاستفتاء.
ومعني ذلك أن مسألة الأغلبية غالبا ما تزيف بصورة مباشرة أو غير مباشرة سواء بالنسبة لرئيس معين أو بالنسبة لحزب سياسي واحد, أو حتي لحزب سياسي رئيسي تدور حوله أحزاب سياسية معارضة. ونصل بعد ذلك إلي الأساس الرابع من أسس الديموقراطية وهو ضرورة احترام حقوق الأقليات. وإذا نظرنا للفكر السياسي العربي في هذا المجال سنكتشف أنه فشل فشلا ذريعا في صياغة نظرية قومية عامة للتعامل مع الأقليات غير العربية في المجتمع العربي.
ذلك أنه لدينا أقوام غير عرب, مثل الأكراد في العراق, والمارونيين في لبنان, والبربر في المغرب, والجنوبيين المسيحيين في جنوب السودان. ما سبق ليس سوي عينة ممثلة لأسس الديموقراطية, غير أنه أمامنا من بعد مناقشات شتي لابد أن تدور حول ضمان حقوق الإنسان الأساسية, وتنظيم الانتخابات الحرة العادلة والمساواة أمام القانون, وأسس أخري تحتاج لتحليل نقدي دقيق.
ويمكن القول أن الأسس التقليدية التي تشكل منظومة الديموقراطية, لحقها تغيرات جوهرية بعد اندلاع ثورات الربيع العربي مما يدعو إلي تحديدها وتحليلها في نفس الوقت.
الاهرام
إرسال تعليق