Home » » د.محمد عبدالمطلب : اللغــــــة العربيـــــة والهويـــــة

د.محمد عبدالمطلب : اللغــــــة العربيـــــة والهويـــــة

رئيس التحرير : Unknown on السبت، 24 مايو 2014 | 10:55 ص


د.محمد عبدالمطلب

إن كل متكلم باللغة العربية يدرك بدهيا أن لغته تساوى هويته , ذلك أن كل مفردة من مفردات هذه اللغة لها سيرة ذاتية امتدت إلى أكثر من ألف وخمسمائة سنة , ومن ثم لم تعد هذه المفردات تؤدى مهمة الربط بين (اللفظ والمعنى) كما لم تعد تؤدى مهمة (التواصل بين أفراد المجتمع) فحسب, وإنما تربط المتكلم والمستمع بعالمه الثقافى الذى يجسد هويته العربية.


إن تاريخ هذه اللغة يكشف عن جوهرها الثقافى والتاريخي, فقد سافرت مع المسلمين الأوائل مصطحبة مخزونها الثقافى بكل مكوناته الحياتية والعقلية والفنية, وعندما وصلت إلى الأمصار المفتوحة أدارت حوارا ثقافيا مع اللغات والبيئات التى قابلتها, ومع الحوار جاء التقارب, ثم التفاعل, ثم التلاقح, وهو وما أتاح للعربية أن تكون اللغة الرسمية فى الخطاب الحياتى والثقافى والإبداعى لكل هذه المجتمعات, أى أنها أصبحت أداة التفكير والإبداع على صعيد واحد.


وهذه المكتسبات التى حازتها اللغة العربية حولتها إلى (سلطة) يدخلها الجميع طواعية مندمجين فى هويتها العربية, أى أن (اللغة صارت هى الوطن), فبقدر ما أعطت أخذت, وفوق الأخذ والعطاء جاء انفتاحها على العالم حضاريا وثقافيا, يضاف إلى ذلك أنها ساعدت فى الحفاظ على هذه الحضارة وتلك الثقافة, حتى آن أبناء اللغات الأخرى تسارعوا إلى تعلم العربية واستيعابها نطقا وكتابة, ثم الدخول فى هويتها الثقافية والحضارية بوصفها لغة مرسلة ومستقبلة معا, وبوصفها لغة متحركة ومتطورة , فالكثير من مفرداتها هجرت معانيها القديمة وامتلأت بدلالات جديدة تناسب التطور الحضارى للمجتمع العربي, من ذلك مفردة: (السيارة) التى كانت تدل قديما على: (القافلة التى تسير) ومفردة: (القطار) التى كانت تدل على: (قافلة الجمال التى يتبع بعضها بعضا) ومثلها مفردات: (الطائرة والمدفع والدبابة والدراجة) التى اكتسبت دلالات جديدة تناسب ما استجد من أدوات الحضارة, دون أن ينفى ذلك وجود علاقة بين المعنى القديم والمعنى الجديد.


وهدفى من هذا المقال الوصول إلى مرض اللسان الذى أسماه الجاحظ قديما (اللكنة), إذ استشرى هذا المرض, وبخاصة بعد الانفتاح العشوائى فى سبعينيات القرن الماضى, حيث كانت اللغة العربية هى ضحيته الأولى, ذلك أن المتكلمين بالعربية من أبنائها الخلص, لا يتكلمون بها خالصة لعروبتها الفطرية, وإنما يتكلمونها ممتزجة بكثير من المفردات الأجنبية, أى أن مرض اللسان الذى ذكره الجاحظ عاد أشد ضراوة وأكثر انتشارا وأعمق فى العدوانية, وأسباب انتشار المرض كثيرة و لكن أخطرها من وجهة نظرى أن المرض اللسانى تحول إلى قيمة اجتماعية واقتصادية وثقافية , فكلما أوغل المتكلم فى لكنته الأجنبية, وأظهر قدرة على استعمال هذه اللغة الأجنبية استعمالا صحيحا, دل ذلك على انتمائه الاجتماعى المميز, وقدرته الاقتصادية الوفيرة, وربما أظهر درجته الوظيفية الرفيعة, فالمرض اللسانى الحديث يغاير المرض القديم فى اكتسابه قيمة عقلية ونفسية واجتماعية واقتصادية لم يكن لها وجود فى القديم.


والمؤسف أنه مع انتشار المرض لم يكن هناك أى مواجهة له بالدواء الناجع, وهو ما أدى إلى انتشاره على نحو مخيف , بل إن المسئولين عن الدوا , شجعوا على انتشار المرض بوصفه علامة من علامات التحضر, و أصبح التدخل لعلاجه نوعا من التخلف , وهو ما شجع أصحاب القدرة الاقتصادية على تزكية المرضى بمرض اللسان فى أوساط الأجيال الجديدة, ذلك أن قدرتهم الاقتصادية لا تضبطها قواعد الانتماء الوطنى والقومي, بل تحكمها قواعد (المكسب والخسارة) ونظرة سريعة إلى الإعلانات التى تملأ وسائل الإعلام المختلفة, وتملأ الشوارع والميادين تؤكد هذا التوجه الكارثى بالنسبة للغة العربية, وبالتالى للهوية العربية.


ومع تحول المرض إلى وباء, أصبح الولع باللغة الأجنبية ظاهرة حياتية وثقافية, وتزايدت الهرولة إلى تعلمها بوصفها تصريح الدخول إلى عالم الكبار اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ووظيفيا وثقافيا, وهو ما أدى إلى تحول التعليم لخدمة هذه اللغة على حساب اللغة القومية, وبعد أن كنا نهتم بتدريس اللغات الأجنبية بوصفها ضرورة حضارية , أصبحنا (نُدَرّس باللغة الأجنبية) فى كل المراحل التعليمية بدءا من مرحلة (الروضة) إلى مرحلة (الدراسات العليا), وجاءت ظاهرة (المدارس الدولية) لتمثل كارثة إضافية على اللغة العربية, وهو أمر لا نظير له إلا فى الدول البدائية, أما الدول الناهضة التى تحترم تاريخها وثقافتها فإنها لا تسمح بالتدريس إلا باللغة القومية, فهى المتن و واللغات الأخرى هى الهامش الضروري, ومن يتابع كل هذه التحولات المأساوية بالنسبة للغة العربية يتوقع ظهور أجيال لا صلة لها بماضيها وتاريخها وحضارتها وثقافتها لأنها تجهل لغة هذه الحضارة, أى أنها أجيال بلا هوية .

الاهرام
إنشر هذا الخبر :

إرسال تعليق