الحج فريضة دينية، وهو خامس أركان الإسلام ويتشوق المسلمون إلى فرصة الحج طويلاً وتمنع كثيراً منهم ظروفه وإمكانياته من أداء تلك الفريضة، وقد جاء في الإسلام أنه فرض على "من استطاع إليه سبيلاً" كما في النص القرآني.
المسلمون يأتون للحج بقلوبٍ مليئة بالإيمان وتفيض بالخشوع وتدعو ربها رغباً ورهباً، وتطوّف بالبيت العتيق والمشاعر المقدسة بحثاً عن النجاة الأخروية والمغفرة والرحمة، ولكن بعض الفئات من المسلمين للأسف تقصد الحج لمآرب أخرى لا علاقة لها بالإيمان والغفران، وعلى رأس تلك المآرب والأغراض، المآرب السياسية وأغراضها ونزاعاتها وأهدافها وصراعاتها.
كانت المملكة العربية السعودية ترفض على الدوام تسييس مناسك الحج وترفض أي تعدٍ من أي نوعٍ على أمن الحجاج أو تكدير لطمأنينتهم، ومن ذلك إعلانها الدائم عن رفض أي مظاهرٍ جماهيرية للتعبير عن مواقف سياسةٍ لا علاقة لها بروحانية العبادة.
ازدادت وتيرة محاولات تسييس الحج مع نجاح الثورة الإسلامية في إيران 1979، حيث سعت إيران وتحت شعار "تصدير الثورة" إلى استغلال مواسم الحج للإعلان عن مواقف سياسية كانت تتبناها الجمهورية الإسلامية، وتعتقد أن من حقها أن تسيء لعبادة الحج، وتؤذي حجاج بيت الله بتظاهراتٍ وشعاراتٍ سياسيةٍ لا تليق بموسم ديني كموسم الحج، وهو أمرٌ لم تسمح به السعودية أبداً.
وصلت ذروة التصعيد الإيراني في تظاهرات حج عام 1987، حيث قام بعض الحجاج المؤدلجين يقودهم أفرادٌ مدربون بتظاهرات سياسية وأيديولوجية استباحوا فيها الدم الحرام في الشهر الحرام في البيت الحرام، فقتلوا عدداً من حجاج بيت الله الحرام وروعوا الآمنين وأرادوا إثارة الفتنة بكل أشكالها وقد تصدّت لهم قوات الأمن السعودية بكل حزمٍ وقوةٍ ومنعتهم من أن يعيثوا فساداً في موسمٍ مقدسٍ للطمأنينة والعبادة، فكان ذلك درساً لم ينسوه فيما بعده من المواسم.
ولكنهم على الرغم من ذلك لم ييأسوا وحاولوا تجربة طريقٍ آخر، فقاموا بتجنيد خليةٍ مجرمةٍ من إحدى دول الخليج، وهي الكويت قامت بتهريب متفجرات، وبالفعل نفذوا العدوان الآثم على حجاج بيت الله الحرام في موسم عام 1990 في تفجيرات نفق المعيصم المشؤومة وقد تمكنت السلطات السعودية من القبض على المجرمين ومحاكمتهم، وتنفيذ الأحكام الصارمة تجاههم، وهو ما منع تكرار ذات الجريمة مرةً أخرى.
ومعلومٌ أن السياسات العامة والخطط الأمنية تتطوّر بتطور الأحداث عبر التاريخ، وتحاول استباق الشرور، فتنجح وتفشل، ولكنها تتعلّم وتتطوّر، فالتفكير بالشر يسبق في كثيرٍ من الأحيان سبل مواجهته ومكافحته على طول التاريخ، وفي هذا السياق تأتي الجرائم المرتكبة في مواسم الحج من منجنيق الحجاج بن يوسف الذي ضرب به الكعبة، إلى استيلاء القرامطة عليها، وسرقتهم للحجر الأسود حتى تم القضاء عليهم إلى غيرها من المواسم وصولاً لحركة جيهمان العتيبي وجريمتها الشنيعة في احتلال الحرم المكي ومن بعدها جرائم الجمهورية الإسلامية والمحسوبين عليها.
كانت جماعة "الإخوان" المسلمين منذ الحجة الأولى التي قام بها مؤسس الجماعة حسن البنّا 1936 تسعى لاستغلال الحج لأغراضٍ لا علاقة له بها وعلى رأسها الغرض السياسي، ومنذ عهد الملك عبد العزيز والسعودية ترفض أي محاولات لتسييس هذه الشعيرة المقدسة، بحيث رفض الملك عبد العزيز تأسيس فرعٍ للجماعة في السعودية ومنع حسن البنا نفسه في حجته الأخيرة من القيام بأي أنشطةٍ دينيةٍ أو دعوية ذات أبعادٍ سياسيةٍ.
ليدرك القارئ الفرق بين حج المسلم العادي وغايته وهدفه وبين حج العنصر الإخواني وغايته وهدفه، فإن الحاج المسلم يأتي طلباً للغفران ويستحضر علاقته بربه ويطلب الغفران والصفح، وينشد إكمال الفرض ورفع الدرجات وبعض الإخوان المسلمين كذلك، ولكن يكمن الفرق حين يجيء القائد "الإخواني" بإصرارٍ على توظيف الحج في السياسة والانطلاق منه لأهدافٍ سياسيةٍ ومثله الفرد "الإخواني"، الذي يؤمر بهذا أو ذاك خدمةً للجماعة في موسمٍ مقدس.
ولكن "الإخوان" كانوا يعملون بصمتٍ لا بضوضاء ويتخذون من موسم الحج مكاناً للالتقاء بالرموز من شتى البلدان وتعزيز تنظيماتهم ووضع خططهم والتكامل فيما بينهم، ومن ذلك على سبيل المثال ما صنعه حسن الهضيبي وهو المرشد الثاني للجماعة في موسم حج 1973 فإنه وبعد وفاة عبدالناصر والإفراج عن الهضيبي و"الإخوان" 1971 "انتهز الهضيبي فرصة الحجّ سنة 1973، فعقد أوّل اجتماعٍ موسّعٍ لـ"الإخوان" في مكة المكرّمة وكان هذا الاجتماع هو الأوّل من نوعه منذ محنة 1954. كان من قرارات هذا الاجتماع إعادة تشكيل مجلس الشورى ليمثل جميع "الإخوان" العاملين وتكوين لجنة عضوية لتحديد "الإخوان" العاملين نظراً لضياع الكشوفات خلال الأحداث"، وذلك بحسب ما ذكره عبدالله النفيسي في كتابه الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية. كذلك ما جرى في حج العام الماضي 2012، حيث اجتمعت قيادات الجماعة من أمثال المرشد الحالي محمد بديع والقيادي "الإخواني" ورئيس حزب "الحرية والعدالة" سعد الكتاتني والعديد من الرموز "الإخوانية"، وقد كانوا آنذاك لا يفكرون في شيء غير السياسة. في موسم هذا العام 2013 يجب الحذر من جماعة "الإخوان المسلمين" على المستويين: المستوى الجماهيري الذي ربما رغبت في تحشيدٍ سياسي لبعض عناصر الجماعة من الحجاج لاستغلال الموسم في غير غايته أو المستوى الخفي، الذي قد تحاول من خلاله شد روابط التنظيمات التابعة لها في السعودية والخليج، وفي مراكز الثقل الإخواني الجديدة، وبخاصة بعد فشل الجماعة وسقوطها في مصر وبعد الحماسة منقطعة النظير التي أبداها "إخوان" الخليج لدعمها ومناصرتها.
وقد دعت مجموعات "إخوانية" لرفع شعار رابعة ذي الأصابع السوداء على خلفية النية الصفراء على جبل عرفات في يوم عرفات، كما طالب جمعة أمين نائب المرشد قيادات التنظيم الدولي لاستغلال موسم الحج.
مفهوم الحج وتصوره وطبيعته واحد من المفاهيم التي جنت عليها جماعة "الإخوان"، فهي حوّلته لمفهومٍ أيديولوجي سياسي ينتج عنه سلوكٌ مماثل، وكما يصح هذا على الحج يصح على الجامع والمسجد والتصور "الإخواني" السياسي لهما.
أخيراً، فإن الحج ومناسكه والحرمين الشريفين ورعايتهما وخدمتهما تظلان في أولويات السياسة السعودية، ومع ما يمثلانه من قوةٍ وتأثيرٍ على العالم الإسلامي، وبالتالي على العالم أجمع، إلا أنها أبداً لم تستغلهما لغرضٍ سياسيٍ. وكل عامٍ وأنتم بخير.
الاتحاد
عبدالله بن بجاد العتيبي
إرسال تعليق