عبد الحسين شعبان
أثار صدور قرار قضائي من محكمة ألمانية بإعادة ثلاث قطع آثارية مسروقة إلى مصر ردود فعل مختلفة، لاسيّما بخصوص الجهود التي ينبغي تضافرها لاستعادة الآثار العربية المنهوبة والتراث الثقافي لعدد من البلدان العربية، خصوصاً العراق قبيل وبعد الاحتلال العام 2003 وسوريا في السنوات الأخيرة التي شهدت صراعاً دموياً منذ العام 2011 وإلى الآن، ومصر التي بذل بعض تجّار الآثار محاولات لتهريب بعض تراثها خلال السنوات الماضية .
وكانت “أور” السومرية التي تعتبر من أكثر المدن أهمية في تاريخ البشرية وورد ذكرها في العهد القديم ومعناها “مدينة القمر” قد تعرّضت لنهب وتخريب منذ العام 1991 حين شنت قوات التحالف حرباً ضد العراق بسبب غزوه للكويت في العام 1990 وما بعده، لاسيّما بعد احتلال العراق العام ،2003 ولم يكن اللصوص تجاراً أو سرّاقاً فحسب، بل كانت جهات دولية منظمة تقف خلفها بهدف الاستحواذ على آثار وحضارة “بلاد الشمس″، فضلاً عن أن جدران المدينة نفسها لم تسلم من التصدّع والانهيار بسبب الإهمال واللامبالاة بفعل استخدام آليات وعربات للقوات العسكرية المحتلة وأسراب المدرعات والدبابات، حيث ساهمت في تخلخل الكثير من المواقع الآثارية، والأمر حدث في بابل أيضاً ومواقع آثارية عراقية أخرى .وكانت منظمة اليونسكو قد أصدرت نداءً يقضي بوجوب إعادة المسروقات الآثارية، خصوصاً أن عدسات الكاميرات وشاشات التلفاز كانت تنقل عمليات النهب وحرق وتدمير المؤسسات والآثار الثقافية من دون أي رد فعل دولي يذكر، الأمر الذي يحمّل الاحتلال المسؤولية القانونية والأخلاقية، ما يستوجب تكثيف الجهود لملاحقة المرتكبين عن جريمة تدمير وسرقة الآثار الثقافية، مثلما جرى تدمير الدولة وقتل عشرات الآلاف من البشر، لاسيّما من المدنيين الأبرياء العزّل، ممن لهم الحق في الحماية بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977
لقد عمد الاحتلال بزعم القضاء على النظام الدكتاتوري إلى حل مؤسسات الدولة العراقية ونهب ثرواتها، إضافة إلى تدمير الهوّية الثقافية وتصحير الذاكرة التاريخية بسرقة الآثار الحضارية القديمة والتراث العربي- الإسلامي والمخطوطات والكتب والجامعات والعقول، وهو ما دعا العديد من الاتفاقيات الدولية إلى حمايتها، باعتبارها تراثاً يهمّ البشرية جمعاء .
ومثلما صمت المجتمع الدولي في العراق فإن نهب الآثار السورية لم يلقَ أي اهتمام جدي، حيث ازدهرت تجارة الآثار من جانب القوى المتصارعة التي لا يهمّها قيمة هذه الآثار الحضارية، بقدر ما هي معنية بأثمانها، وقد وجدت أسواقاً أو ممرات لها عبر عدد من البلدان العربية المجاورة، وربما وجد بعضها الآخر طريقه إلى “إسرائيل”، فالسماسرة يلبّون الطلبات مقابل العروض والمكافآت، وهو الأمر الذي حصل في العراق بخصوص الآثار التي تم تهريبها من بابل إلى تل أبيب، وهي كنوز حضارية بكل ما تعني الكلمة .
وفي مصر فإن القطع التي قضت المحكمة بإعادتها يعود تاريخها إلى نحو 5000 عام (الفترة التي تمتد بين الأسرة الحادية والعشرين إلى الأسرة السادسة والعشرين) وقد تمت سرقتها منذ خمس سنوات، ولكن المطالبة المصرية والتقدّم إلى القضاء الألماني ساهما في إصدار الحكم “التاريخي” حيث تم بموجبه توقيع بروتوكول بين وزيرة الدولة للشؤون الخارجية الألمانية ماريا بوهمر ومحمد حجازي السفير المصري في برلين، وكان قد تم ضبط القطع الثلاث في العام 2009 في شتوتغارت في محاولة لتهريبها إلى بلجيكا، حيث بدأت رحلة التهريب من القاهرة إلى إيطاليا ومنها إلى سويسرا، ثم إلى شتوتغارت الألمانية (والقطع الثلاث عبارة عن مسلّة صغيرة ومقصورة مجوّفة لتمثال وقطعة حجرية منحوتة فيها أربعة تماثيل متجاورة). ويعتبر تهريب الآثار وتجارتها من أخطر ما يواجهه المجتمع الدولي وتأتي بالدرجة الثالثة بعد تهريب السلاح والمخدّرات، في الأعمال غير المشروعة التي تقوم بها عصابات وجهات مريبة وبعضها يذهب لتغذية الإرهاب الدولي، بما يلحق ضرراً بتراث الإنسانية الثقافي وحاضرها وقيمها، وذلك يتطلب إعمال الاتفاقيات والمعاهدات الدولية بهذا الخصوص، بل والعمل على تطويرها لتشمل جميع الحالات وتمنع التسرب أو التحلّل من الملاحقة لوجود نقص أو ثغرة فيها أو في قوانين الدول المعنيّة التي يمكن أن تكون “ممراً” أو “مقراً” لهذه العصابات التي تمارس عملية السرقة والنهب للآثار والتراث الثقافي .
ومن هذا المنطلق فإن قرار المحكمة الألماني يعتبر سابقة لا بدّ من استخدامها أوربياً لملاحقة المتهمين بسرقة الآثار أو المتاجرة فيها، باعتبار ذلك محرّماً دولياً، وإن ما يتم إنما هو تجارة غير شرعية وغير قانونية، الأمر الذي يحتاج إلى تعاون الجميع لوضع حدّ لها، وهذا يتطلب أيضاً الضغط على الدول لإصدار تشريعات تمنع الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية والآثارية، انسجاماً مع القوانين الدولية والاتفاقيات التي تم التوقيع عليها فيما يتعلق بحقوق الملكية الثقافية . ومن أبرز الاتفاقيات الدولية على هذا الصعيد اتفاقية لاهاي لعام 1954 وبروتوكولها الأول الملحق بها والصادر في العام نفسه، واتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لعام ،1972 والبروتوكول الثاني لاتفاقيات لاهاي لعام 1999 الذي تضمن أحكاماً جنائية، واتفاقية التراث الثقافي المطمور بالمياه لعام 2001 واتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي لعام ،2003 واتفاقية حماية وتعزيز وتنوّع أشكال للتعبير الثقافي لعام ،2005 إضافة إلى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام ،1988 وكانت اليونسكو قد أبرمت اتفاقية العام 1970 تناولت فيها التدابير الواجب اتخاذها لحظر منع استيراد وتصدير ونقل الممتلكات الثقافية بوسائل غير مشروعة مشدّدة على ضرورة فرض عقوبات وجزاءات إدارية على كل من يتسبب بخرق هذه القوانين .
وكانت واحدة من ثغرات القانون الألماني، هو وجوب تسجيل المنهوبات ضمن التراث الوطني للبلد المعني، وذلك قبل نهبها وأن يتم تقديم 16 وصفاً أو علاقة للقطع المنهوبة وغير ذلك من القيود البيروقراطية وغير الشرعية والتي تعتبر مثالب وعيوباً لاستمرار هذه التجارة غير الشرعية، التي تحتاج إلى حزم وتعاون دوليين .
وإذا كانت المنهوبات الثقافية وتجارة الآثار واحدة من أخطر أنواع التجارة غير الشرعية في العالم، فإن الأمر يتطلب سدّ النواقص والثغرات في القوانين السائدة في مختلف بلدان العالم، ودعوة جميع البلدان للانضمام إلى المعاهدات والاتفاقيات الدولية الخاصة بحظر تجارة الآثار الثقافية، وتعديل قوانينها طبقاً لذلك، كما يتطلّب من البلدان التي تتعرض للنهب والسرقة ملاحقة السرّاق وتجّار التراث الثقافي بجميع الوسائل المشروعة لجلبهم إلى القضاء وعدم التهاون بذلك، فقد كان الرئيس السابق حسني مبارك قد صرّح بأن رأس نفرتيتي سيكون بخير، فألمانيا ليست بعيدة عن مصر (أي لا يهم إن كان في مصر أو في ألمانيا)، وآن الأوان لوضع اتفاق أثينا العام 2007 موضع التطبيق بضرورة تعاون جميع الأطراف للحفاظ على الموروث الثقافي، الأمر الذي يقتضي على الدول العربية استخدامه على أوسع نطاق والمطالبة بإعادة آثارها المنهوبة والقضاء على تجارة الآثار الثقافية .
وسيكون مفيداً لتحقيق هذا الهدف عربياً، الانضمام لنظام محكمة روما واستخدام الآليات المعتمدة لديها، بملاحقة المرتكبين، سواء عبر مجلس الأمن ام عبر تقديم الشكاوى المباشرة أم تقديم المعلومات إلى المدعي العام مثلما يمكن للمجتمع المدني أن يشكّل قوة رصد ومراقبة وفي الآن ذاته قوة اقتراح بالتعاون مع المجتمع المدني العالمي لملاحقة هذه الظاهرة والضغط على الدول التي تتهاون إزاء مرتكبيها، كما يتطلب الأمر تعاوناً عربياً لملاحقة تجار الآثار وعدم جعل أراضي الدول العربية ممراً لهم للانتقال منها إلى العالم، ويقتضي ذلك تفعيل اتفاقيات العمل العربي المشترك بما فيها تسليم المجرمين.
الزمان
{ باحث ومفكر عربي
إرسال تعليق