Home » » أحمد عثمان يكتب : الإرهاب وأزمة الثقافة العربية: نحو خطة للمستقبل

أحمد عثمان يكتب : الإرهاب وأزمة الثقافة العربية: نحو خطة للمستقبل

رئيس التحرير : Unknown on الخميس، 15 مايو 2014 | 9:12 ص



أحمد عثمان

في القـمة العربية التي عقدت أخيراً بالكويت، اقترح عدلي منصور - رئيس مصر الموقت - استضافــــة للمفكــــرين والمثقفين العرب في مؤتمر يعقــــد في مكتبة الإسكندرية لبحث سبل النهوض بمستوى الفكر العربي. واعتبر منصور أن «حمل راية التنوير والتحديث» هو الطريق الصحيح لمواجهة الفكر الإرهابي في بلداننا. ومــن المؤكد أن الثقافة العربية تمر في أزمة خانقة منذ سنوات، هي التي ساعدت على انتشار الفكر الإرهابي المتطرف بين شبابنا، ما بات يهدد حياتنا السياسية والإجتماعية، بل مستقبلنا بأكمله.

غالبية المثقفين ترى أن إنقاذ الثقافة لن يتأتى إلا من طريق نشاط الدولة. وأنا أخالف هذا الرأي وأعتقد أن نشاط الدولة - على العكس - كان هو السبب الرئيسي لتخلف الثقافة العربية، وأن ارتباط المثقف بالعمل السياسي جعله يتحول إلى أداة إعلامية يدافع عن تفسيرات الحكومات، بدلاً من قيامه هو بتفسير الأحداث. ونحن نشاهد الحقيقة المؤلمة تتم حلقاتها أمام أعيننا كل يوم. فليس الاستعمار ولا الصهيونية ولا التطبيع ولا العولمة مسؤولة عن انهيار ثقافة العرب، وإنما المسؤول هو الأمة العربية نفسها. فلم تبلغ النهضة الثقافية العربية الحديثة ذروتها، إلا في عهد كانت فيه بلدان العرب تخضع لنفوذ الاستعمار الأوروبي وسيطرة الإقطاع المحلي. ولم تبدأ ثقافتنا في الضعف والانهيار إلا بعد تحرر بلادنا من الاستعمار، عندما تمت سيطرتنا على مقاليد الحكم.

ولا شك في أن سيطرة الأجهزة الحكومية على التعليم الجامعي والثقافة، هي السبب الرئيسي لتخلف الفكر في بلادنا. فبلداننا العربية تكاد تكون الوحيدة في العالم الآن، التي لا تزال الأجهزة الثقافية فيها تدار بواسطة وزارات حكومية. نشر الكتب والمجلات الثقافية، المكتبات، الفرق المسرحية ودور العرض المسرحي والسينمائي، المهرجانات الفنية، قصور الثقافة في الأقاليم، المتاحف الأثرية والمعارض الفنية، المواقع الأثرية والبحث عن الآثار وصيانتها. وهذه الأجهزة في البلدان الأخرى موزعة بين شركات القطاع الخاص أو الهيئات الأكاديمية المتخصصة. والحل الوحيد هو خصخصة الثقافة، واستقلال الجامعات والمتاحف والمكتبات. نحن الآن في مرحلة الخصخصة وقد حان الوقت كي يساهم رجال الأعمال والأثرياء في بناء نظام جديد للتعليم والثقافة. ففي قصور الأمراء والأثرياء، ازدهرت ثقافات العالم القديم، ونحن ننظر إلى أثريائنا للقيام بدورهم بعيداً من السياسة ومن الحكومات. ففي أميركا وأوروبا ينفق رجال الأعمال والأثرياء ببذخ على الإنتاج الثقافي والبحوث العلمية، وهم الذين يحتضنون المواهب الجديدة، كما فعل الباشاوات والأمراء في تاريخنا القديم.

كما أن هناك ضرورة ملحة لإعادة النظر في الخطة الثقافية في بلادنا، للمرحلة القادمة. وليس من المبالغة القول إن مستقبلنا الحضاري يتوقف في الدرجة الأولى على السياسة الثقافية التي نتبعها. ومن المؤكد أن غالبية الدول العربية موجودة خارج خريطة التطور الحضاري الذي يجري في العالم، بسبب ضعف المستوى الثقافي في هذه البلدان. وبينما نحن لا نزال نضع خططنا على أساس ما كان سائداً في منتصف القرن الماضي، فإن العالم من حولنا قد أسرع خطاه إلى مرحلة جديدة من حضارة البشر. فبفضل الكشوفات العلمية الحديثة والتطور الكبير في وسائل التكنولوجيا التي لا نعرف عنها إلا القليل، أصبح العالم يتحرك بسرعة إلى مرحلة جديدة من حضارة البشر.

كان اختراع الكتابة في مصر القديمة منذ حــوالى خمسة آلاف و 300 سنة، نقطة تحول فـــي تاريــــخ البشرية. فقد مكنت الكتابة الإنسان من حفــظ معارفه للأجيال التالية ليبدأ منها، إلى جانـــب نقلها جغرافيا إلى أماكن أخرى. وأدى انتقال المعلومات إلى ثورة في المعرفة والثقافة هي التي أنتجت في النهاية الحضارة البشرية الحديثة. ثم جاء اختراع تكنولوجي جديد في النصف الثاني من القرن العشرين، أدى إلى دخول البشرية مرحلة جديدة من التطور الثوري بما أتاحه من تزايد حجم المعلومات، وسرعة ودقة عمليات التفكير. فقد أدى اختراع جهاز الكومبيوتر إلى إيجاد عقل إليكتروني يستخدمه الإنسان، ليس فقط في تخزين كمية هائلة من المعلومات، بل في استخدام هذه المعلومات في عمليات استنتاج وتفكير لا يستطيع العقل البشري القيام بها. أتاح هذا التطور فرصة هائلة لحدوث تقدم في العلوم والتكنولوجيا، سوف يؤدي إلى ظهور شكل جديد من المجتمعات البشرية - بل إلى ظهور نوع جديد من البشر - من طريق التحكم في الجينات الوراثية.

مما لا شك فيه أن المرحلة القادمة من تاريخنا تتطلب منا الانفتاح الفكري على العالم من حولنا، فعلينا أن نتعرف على أفكار الآخرين كما أصبح من الضروري تعريف الآخرين بفكرنا. فلم يعد هناك مبرر للعزلة الفكرية التي فرضناها على أنفسنا، في مجتمع لا تحكمه حدود، بعد انتشار وسائل الانتقال وعوامل الاتصال. وعند محاولة اختيار الطريق الذي نسلكه لتحقيق نهضتنا الفكرية الجديدة لا نستطيع اللجوء إلى نماذج غريبة عنا، وإنما يصبح الرجوع إلى تراثنا القومي هو الطريق الوحيد الذي تعرفه الجماهير وتتحمس له، فلا يمكن فرض طريق آخر لا يقوم على أساس من طبيعة التطور الحضاري لشعوبنا. ومن الطبيعي أن يكون التراث الذي نعتمد عليه كقاعدة لإعادة تكوين الثقافة العربية، هو تراث المجتمعات العربية القديم وتراث الدولة الإسلامية في المرحلة التي بلغت فيها أرقى درجات النمو الحضاري، منذ القرن الثامن في دمشق وبغداد وحتى القرن الخامس عشر في الأندلس.

وإذا نظرنا إلى مرحلة ازدهار المدارس الفكرية الإسلامية - في عصور الظلام الأوروبية - نجد ان المدارس الفكرية ذاتها التي ترعرعت في الغرب، كانت تنبثق على أرضنا. ذلك أن جوهر الطبيعة الإنسانية، بل جوهر المشكلة الفلسفية التي يواجهها الإنسان، هو واحد لدى كل أبناء البشر في صراعهم بين الوجود والعدم. وما الفكر اليوناني - الذي هو أساس الحضارة الغربية - إلا نتاج المنطقة العربية، فلم يكن الإغريق إلا مترجمين لأعمالنا ناقلين لها، ولم تكن أثينا هي عاصمة الفكر الذي نسخ باليونانية، بل الإسكندرية.

بدأ نور المعرفة يخبو عندنا بعد حرق مكتبة الإسكندرية إلى أن جاءت الدولة الإسلامية، فعمل خلفاؤها - الأمويون في دمشق والأندلس والعباسيون في بغداد - ما فعله الملوك البطالمة من قبل، وأنفقوا الآلاف من الدنانير للحصول على النسخ الأصلية من الكتب التي كانت لا تزال مبعثرة في أشلاء الدولة الرومانية السابقة. وقام المسلمون بحركة نهمة للتعرف على منابع المعرفة العقلية والتراث القديم للبشرية، فتمت ترجمة أمهات الكتب من اليونانية والقبطية والسريانية والفارسية إلى اللغة العربية.

وفي البداية نالت العلوم النقلية - المتعلقة بالمسائل الشرعية واللغوية - أهمية خاصة. فظهرت علوم التفسير والقراءات والحديث والفقه والكلام والنحو والبلاغة والبيان والأدب، وكلها لم تكن معروفة لدى العرب من قبل. وفي المرحلة الثانية اهتم المسلمون بالفلسفة اليونانية وعلم المنطق، كما اهتموا بالطب والكيمياء والهندسة والحساب والتاريخ والجغرافيا والموسيقى. بل إن حكام المسلمين - في نهمهم إلى المعرفة - لم يكتفوا بالكتب التي وجدوها في البلدان التي تم فتحها، فأرسلوا رسلاً للحصول على نسخ من الكتب الموجودة في مكتبات القسطنطينية وبلاد الرومان. وأصبحت المكتبات في بغداد والبصرة والكوفة ودمشق والفسطاط وقرطبة، عامرة بأهم ما أنتج الفكر الإنساني من دراسات. وأدى تجميع الكتب إلى ثورة فكرية جديدة ومرحلة من مراحل حضارة الإنسان، استمرت إلى أن انهارت دولة العرب، وجاء العثمانيون في القرن الخامس عشر ليلقوا بظلال كثيفة من النسيان على المنطقة العربية.

بعد خمسة قرون من الظلام الفكري، بدأت الأمة العربية تتطلع إلى بعث حضاري جديد، على أثر سقوط الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى. وأدى العثور على النفط وفتح قناة السويس في المنطقة العربية، إلى زيادة الأمل بأن تساعد زيادة الدخل القومي على مجيء هذا مالبعث. وبدأت حركة النمو الفكري والثقافي في بلاد العرب، حتى قبل أن تحصل على استقلالها السياسي، فازدهرت عواصم الثقافة في القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد، كما فتحت المؤسسات التعليمية في بلدان الخليج، في وقت كانت فيه هذه البلدان ترزح تحت أقدام قوى الاحتلال الأجنبي. ومثل أية نهضة ثقافية أخرى، اعتمدت النهضة العربية على التعليم لتبدأ مسيرتها.

نظام التعليم هو المسؤول عن إعداد المواطن لقبول التغييرات الفكرية الجديدة، إلا أن نظام التعليم عندنا أصبح عاجزاً عن أداء هذه الوظيفة نظراً للزيادة الكبيرة في عدد السكان وضعف الموارد المالية. وبينما زادت نسبة المتعلمين في الدول الخليجية بسبب ما تنفقه على طلابها، فلا تزال نسبة الأمية مرتفعة في كثير من البلدان العربية، حيث تصل إلى حوالى 50 في المئة في بعض المناطق. لهذا فإن الثقافة هي أملنا الوحيد باللحاق بركب الحضارة ومقاومة مرض الزيادة السكانية الكبيرة الذي يتفشى الآن، والذي يعتبر موطناً صالحاً للإرهاب. وفي مثل هذه الظروف لا يكون النشاط الثقافي عملاً ترفيهياً، بل ضرورة حتمية للوصول إلى غير المتعلمين في مجتمعنا والعمل على رفع مستواهم. الآن لابد من إعادة النظر في خطتنا الثقافية، وإذا نحن أردنا أن ننتمي إلى حضارة القرن 21، فليس هناك من طريق أمامنا سوى الثورة الثقافية لنفتح آفاقاً جديدة أمام إبداعنا.

* كاتب مصري مقيم في بريطانيا

إنشر هذا الخبر :

إرسال تعليق